لم تكن المرة الأولى وربما لن تكون المرة الأخيرة التي يتدخل فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتأجيل او لاعادة بعض القوانين الي البرلمان. المرة الاولي كانت في سنة ٢٠١٨ بعد صدور قانون التجارب الإكلينيكية السريرية، والثانية منذ ايام قليلة عندما أرجأ العمل بالقانون الخاص بالشهر العقاري لمدة عامين، ولحين اجراء حوار مجتمعي موسع حول القانون، الذي أثار جدلا واسعا بين ابناء المجتمع.
وفي هذا المقال نلقي الضوء علي قانونين اثنين كانا في غاية الاهمية، ولكن عدم اجراء حوار مجتمعي حقيقي حولهما قبل صدورهما من البرلمان كان السبب الحقيقي الي ماانتهي اليه الامر وهو عدم التنفيذ. وهما قانونا زراعة الاعضاء وقانون الابحاث السريرية الاكلينيكيه.
أولاً قانون زراعة الاعضاء من الموتي
ادرك قدسية الحفاظ علي الجسم الادمي عند المصريين، وادرك حرمة العبث بالجثمان بعد الوفاة في الماضي والحاضر. ولكن العالم تغير من حولنا واصبح لبعض الاعضاء بعد الوفاة اهمية قصوى في انقاذ حياة الآلاف من الاحياء. لقد اجازت الهيئات الدينية في معظم البلدان المحيطة ومنها الدول الإسلامية مثل دول الخليج العربي نقل الاعضاء من حديثي الوفاة بضوابط وشروط صارمة، وكذلك فعلت مصر. ولكن تم تطبيق القانون في البلدان المحيطة بنا وتعثر عندنا. النتيجة ان مصر اصبحت تستورد القرنية من الخارج بالعملة الصعبة. واصبحت كليات الطب المصرية تشتري الاجسام المحنطة للانسانPlastinated human bodies لتدريس مادة التشريح الادمي لطلاب الطب عليها، وكأن مصر التي علمت العالم فنون التحنيط قد عجزت عن توفير الجثث لتدريب طلاب الطب عليها. ونفس الشيء يحدث في نقل الاعضاء من حديثي الوفاة الي المرضي الذين هم في امس الحاجة اليها. وبرغم صدور القانون منذ سنة ٢٠١٠، إلا ان التنفيذ لم يتم. وتسأل لماذا؟ فلا تجد اي اجابة مقنعة، سوي انه لم يتم توافق مجتمعي بسبب غياب الحوار، وبسبب الاراء المتشددة لقلة قليلة من رجال الدين، وبسبب اراء مغلوطة لعدد قليل جدا من الأطباء، الذين نجحوا في افشال قانون هام وحيوي وهو زرع الاعضاء من حديثي الوفاة. تذكرت حديثا مع الدكتور مروان المصري، وهو طبيب لبناني عاشق لمصر، وكان رئيسًا للجمعية العربية لزرع الاعضاء. اكد ان غياب الحوار المجتمعي الهادئ والعلمي والمبني علي صحيح الدين هو السبب ان اصبحت مصر وحدها في المنطقة التي لاتمارس نقل الاعضاء من الموتي، رغم ان مصر هي الدولة الرائدة في الطب، وهي الأولي عربيا في زراعة الاعضاء من الاحياء، وبالرغم من صدور قانون زراعة القرنية ببنوك العيون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦٢ وتعديلاته في العام ٢٠٠٣، وكذلك قانون زراعة الأعضاء رقم ٥ لسنة ٢٠١٠. السبب الحقيقي هو ان المُشَرِعْ لم يقم باجراء الحوار المجتمعي، ولم ينجح في ازالة اسباب تخوف البعض من سوء استخدام القانون، وترك الميدان الي المتشددين الذين لعبوا علي وتر العادات والموروثات التي ورثها الشعب المصري منذ الفراعنة وتقديسه لحرمة الموتي، دون مراعاة لحق الاحياء ومعاناة المرضي.
ثانياً قانون الابحاث السريرية الاكلينيكية
اصبحنا ندرك اهمية الابحاث السريرية بعد جائحة كورونا، وبعد ان اضطرتنا الظروف للمشاركة في الابحاث التي ادت الي اكتشاف الفاكسين الواقي من الفيروس. التجارب الاكلينيكية تجري في جميع دول العالم، وهي أساس تقدم الطب واختبار الادوية الجديدة والتطعيمات الفعالة. وقد اقدمت مصر علي سن قانون ينظم اجراء الابحاث العلمية ويحفظ حقوق المرض سنة ٢٠١٨. ولكن القانون صدر علي عجل ودون توافق بين المجتمع العلمي، فما كان من الرئيس الا ان اعاده مرة اخري الي البرلمان. وفي يوم ٢٥ أغسطس ٢٠٢٠، اي بعد عامين من صدوره للمرة الاولي سنة ٢٠١٨، وافق المجلس علي القانون بعد التعديلات التي أُدخلت عليه. السبب الذي ادي الي تأجيل صدور القانون لمدة عامين، هو نفس السبب الذي ادي الي تأجيل العمل بقانون الشهر العقاري الجديد، وهو التعجل وعدم اجراء حوار مجتمعي فعال قبل صدور القانون.
الاصل في سن القوانين هو تحقيق المنفعة العامة، وضبط العلاقة بين افراد المجتمع. ويجب ان يتم ذلك في لجان برلمانية متخصصة، وفي وجود قاعدة علمية وقانونية، قادرة علي التواصل الفعال وعلي اقناع الرأي العام بضرورة صدور هذه القوانين. صدور بعض القوانين وعودتها مرة اخري الي البرلمان يضر بمصداقية البرلمان، ويلقي مزيدا من الاعباء علي مؤسسة الرئاسة. اعتقد انه قد حان الوقت لكي يقوم مجلس النواب في تشكيلته الجديدة بدوره الطبيعي في دراسة مشروعات القوانين التي تتقدم بها الحكومة او يتقدم بها النواب. وأظن اننا بحاجه الي الاستماع الي الخبراء والمختصين واهل الرأي من ابناء الشعب المصري (وهم كُثر) قبل صدور اي قانون من البرلمان. أدعو الله سبحانه وتعالى ان يوفق المستشار رئيس المجلس، وأعضاء البرلمان، والحكومة إلي ان تستعين بأهل الخبرة في الجامعات ومراكز الأبحاث، وإلي ان تستمع الي كل صاحب رأي يعيش علي ارض هذا الوطن الطيب، ويسعده أن يقدم خبرته لخدمة هذا الوطن الغالي علينا جميعا.