الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دموع أمي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبل 32 عاما وتحديدا يوم 10 مارس 1989، وفي مثل هذه الأيام، كنت وشقيقي الأكبر وشقيقتي الوسطى، ننتظر في المستشفى لإجراء جراحة لوالدتي رحمة الله عليها، وفي انتظار قرار الدكتور أحمد سامح همام، بقرار مصيري في حياة الوالدة، ووقعنا على إقرار بالموافقة على إجراء الجراحة، وبالفعل دخلت غرفة العمليات وبدأت التجهيزات.
قبل التوقيع على الإقرار بالجراحة، همست في أذن أمي، سنوافق على العملية، والتي ستفقدي بها جزء من جسمك، فالتفت للجهة الأخرى، والدموع تملأ عينيها، لأجهش أنا بالبكاء.. وقالت مفيش حل تاني، قلت لا، فردت خلاص "شوفي اللي أنتم عايزينه".. وهمست في أذني "يا ريت متتعملش العملية دي"، فقلت الأطباء يقولون لا حل لتخفيف الآلام المبرحة إلا بهذه العملية.. فصمتت.. وحركت الممرضة "الترولي" في اتجاه غرفة العمليات.. تاركة كم هائل من الدموع على الأرض.
مرت الدقائق طويلا، وكأنها دهر من الزمان، والقلق ينتابنا جميعا، وكل وضع المصحف بين يديه في حالة دعاء جماعي، دون ترتيب، وأمام الممر الطويل في مستشفى القصر العيني نعد خطواتنا انتظارا لما هو سيأتي.
وفجأة وفي حراك غير عادي، دخل فريق الأطباء، وبعدها تم استدعاء عدد آخر، من الأطباء، وحركة أعضاء هيئة التمريض غير العادية انتابتنا بحالة من القلق الشديد، وحاولت السؤال عما يحدث في غرفة العمليات، وعن حالة الوالدة، وحقيقة ما يحدث، وللأسف لا مجيب، إلا بكلمات الطمأنة.
الدقائق تمر، وأرى الدموع في عيون شقيقتي "سعدية"، وكاد صوتي بكائي أن يخرج عن شيء ليس لدي أي علم عنه، المعلومات شحيحة، ولا مجيب عن أي سؤال، والصمت ظل سمة المكان كله، سوى همسات الأطباء، وتمتمات الممرضات.
وفجأة خرج الدكتور أحمد سامح همام من غرفة العمليات، بصحبة دكتور التخدير، وهرولت إليهما، للسؤال عن حالة الوالدة، فأخبرني دكتور سامح، بأنه لم يستطع إجراء الجراحة، والتي كانت تقتضي بتر جزء من جسدها لأسباب تتعلق بالأوعية الدموية، وعدم وصول الدم لأجزاء من الجسم العليل، والذي تراجع بشدة في سنواتها الأخيرة.
وقلت للدكتور سامح، ما الحل إذن، فرد سريعا، قلب أمك لن يستطيع أن يتحمل "حقنة البنج"، فلديها مشكلات كبيرة في القلب، وهو أحد الأمراض التي كانت تعاني منه طيلة عمرها، وخصوصا في آخر 20 عاما.
وبادرني دكتور التخدير، سنكتب لوالدتك على خروج فورا، وكانت الساعة التاسعة ليلا.. وقلت ما الوضع يا دكتور، فردت عليك بالخروج فورا.. ولكن إلى أين أتجه لبيتي في القاهرة، أم إلى بلدتي.. فتمتم دكتور همام، إلى مكان ترتاح فيه !!
ساعتها أدركت أن أمي في طريقها إلى الرحيل، مع كلمات الطبيب "روح لمكان سترتاح فيه والدتك، والمكان الذي ستدفن فيه"، وأخبرت من معي بكلمات الطبيب، لنتخذ القرار بالتوجه من القصر العيني مباشرة إلى بلدتي.
في نفس يوم "العملية الجراحية" شعر والدي بأنه لن يتحمل أن يرى أمي، وشريكة حياته على مدى أكثر من 50 عاما، وهي خارجة من غرفة العمليات، وجزء منها مبتور.. لم يقل هذا بل قرأته بكل التفاصيل، في كلماته وهمساته.. وقرر السفر بعيدًا عن موقع الجراحة، واصطحب معه عمتي الحاجة أمينة شقيقة جدي، وكأنه كان يقرأ شيئا ما سيحدث.
وبصحبة عمي أحمد الرفاعي الذي قاد السيارة، وشقيقي الكبير الحاج عبد الحميد، وأختي سعدية، توجهنا إلى قريتي ميت غراب بالدقهلية،.. وعلى الطريق إتصلت بزوجتي، وزوجة أخي على الخط الأرضي، فلم تكن قد ظهرت الموبايلات، وأخبرتهم بما جرى.
وعلى طول الطريق، لم نتوقف عن الحكي، وعلى غير العادة، أخذت أمي تسترجع تاريخ من الحكايات، وكيف ربتنا نحن "السبعة"، وكيف ماتت أختي الصغري "صفاء" وهي طفلة، وحجم الشقاء في الحياة في بيت كان الدخول فيه على المشاع، من أصدقاء وزملاء جدي في وزارة الأوقاف، وعماتي وأولادهم، الذين أخذ جدي ووالدي على تربيتهم، بحكم المسئولية الاجتماعية.
وفي التفاصيل الكثير والكثير، من الحكايات، عن زواج إخوتي البنات، ودورها في تثبيت أركان بيوتهن، وعلاقتها بجداتي، وزوجات جدي، وعلاقتها بأخوالي وزوجاتهم، وكيف كانت سدا منيعا لإحتواء اي خلاف، وأسرار كثيرة.
أختي سعدية رحمة الله عليها، ترد وتقول "منتي حلوة وفاكرة كل حاجة"، تبستم أمي بهدوء.. ثم تصمت طويلا... وأمام منزلنا في قريتي، قبل فجر يوم 11 مارس 1989 تقف السيارة، لنجد والدي في انتظارنا، دون أن نبلغه، وكأنه كان يعلم أننا قادمون، ومد يده ليمسك يدها ويقول "انت جيته يا فاطمه.. قلبي كان حاسس".. وحملت أمي بين زراعيّ، وعلى سريرها وضعتها، وكان الجو بارد في مارس.
ابعدنا والدي عنها، وهمس في أذنها،.. وأطل علينا قائلا "يلا هاتوا إخوتكم وأولادكم الآن.. اعترض أحد أخوتي على مطلب الوالد، فالفجر على وشك الآذان،.. فرد والدي رحمة الله عليه، "اسمعوا ما أقوله يلا".
وجاء الجميع أو من استطاع الحضور.. وفي غرفة 5 أمتار في 5 أمتار، كنا حول أمي، نقبلها وكأن، حدثا جللا سيقع... إمتد الوقت بعد صلاة الفجر، وفي الساعة السابعة.. سمعت والدي يلقن أمي الشهادة.
لندخل جميعا في نوبة بكاء، وعندما صرخت أختي.. تدخل أبي لمنعها.. وأخذ يقرأ القرآن، فكان رحمة الله عليه من حفظته،.. وساعات وقفنا نلتقي العزاء في أم كانت نموذجا لأمهات أعطت دون أن تنتظر مقابل.. وقلت في نفسي.. تحققت أمنيتك يا أمي أن ترحلي إلى المولي، بكل جسمك دون أي نقصان.
فرحمة الله عليكي، يا حاجة فاطمة.. وتذكروها وأمهاتكم ومواتاكم بالدعاء ليس في شهر المرأة فقط، بل كل يوم ولحظة.