أرغب في مشاركتكم ما يحدث بعيدا عن حدودنا الجغرافية حتى نطلع على ما يدور حولنا ويؤرق شعبا مازلنا لا نعرف عنه الكثير ألا وهو الشعب الجزائري. سمعة هذا الشعب العربي الشقيق أنه عنيف، غضوب، نزق، وحاد الطبع، ودائما ما نستغرب ردود أفعاله ونقرأها على هذا الوجه بل ونسارع بإطلاق أحكام قاسية هي في الحقيقة انطباعات نجهل مسبباتها.
أقول ذلك بمناسبة الاعتراف الفرنسي "المتأخر جدا" بقتل المحامي المناضل علي بومنجل عام 1957 والذي قدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال استقباله أحفاد هذا الزعيم الوطني الجزائري، قائلا إنه "تعرض للتعذيب والقتل" على أيدي الجيش الفرنسي إبان الاستعمار، متراجعا بذلك عن رواية باريس القديمة بأنه انتحر. هذا الاعتراف المبطن بالاعتذار أحدث ضجة لدى الرأي العام في فرنسا والجزائر و تصدر عمليات البحث على جوجل طيلة الأيام الماضية وأعاد للأذهان المجازر التي ارتكبتها فرنسا طيلة 132 سنة من احتلالها الجزائر والمسؤولية الأخلاقية والسياسية عن إخفاء وطمس آلاف الجرائم البشعة بحقّ شعب الجزائر من ثوار ومدنيّين.
والمناضل بومنجل هو محامي اقتحم عالم السياسة في سن مبكرة وكان عضوا في حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي أسسه فرحات عباس أول رئيس للحكومة المؤقتة عام 1946. وكان بومنجل من أوائل من التحقوا بـ"جبهة التحرير الوطنية" كما لعب دورا مهما في التعريف بنضال الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي في الداخل والخارج. واعتقل بومنجل خلال "معركة الجزائر" سنة 1957، وتعرض للتعذيب المتواصل على يد فرقة الجنرال الفرنسي بول أوساريس. وفي نفس العام أخبرت فرنسا عائلته بأنه انتحر، إلا أن الحقيقة التي لم يُكشف عنها إلا بعد مرور 43 عاما على الواقعة ظهرت في مذكرات الجنرال أوساريس عام 2000 الذي اعترف باغتيال بومنجل بعد رميه من الطابق السادس لإحدى البنايات!
فكم من الجزائريين مثل بومنجل اغتيلوا بعد التعذيب ولقوا مصرعهم بهذه الطريقة البشعة ثم ظلت فرنسا الاستعمارية وفرنسا الجديدة تنكر هذه الوقائع لولا هبات الضمير التي تنتاب جنرالات الحرب في آخر أيامهم للتكفير عن ذنوبهم!
دام الاستعمار الفرنسي للجزائر أكثر من 130 عاما، وقُتل ما لا يقل عن 5 ملايين شخص، بينهم مليون ونصف شهيد خلال ثورة التحرير في الفترة بين 1954 و1962، يضاف إليهم آلاف المفقودين وضحايا التجارب النووية في صحراء رقان الجزائرية عامي 1960 و1962 وضحايا الألغام التي زرعها المستعمِر على الحدود مع المغرب وتونس وضحايا الإبادة الجماعية والمجازر. هذه القصص التي أدمت قلوب كل عائلة وكل بيت في الجزائر سببت أزمة في ذاكرة وتاريخ هذا الشعب، وجرّت تداعيات عميقة وندوبا في الشخصية لدرجة أصبحت جينات غضب متوارثة ودما يغلي في العروق عبر أجيال متعاقبة.
فكيف نلوم المجني عليهم وننتقد سيكولوجية قلقة لشعب تعرض أبناؤه للإبادة ونُعفي في المقابل الجاني الحقيقي؟! إن ما اقترفه المستعمر الفرنسي لا يُمحى أبدا بمجرد اعتذار رسمي أو حتى شعبي أو برسائل حسن النية التي يبعثها ماكرون بـ "التنقيط " ولا تتجاوز عذوبة الكلمات دون التطرق إلى مسألة التعويض عن الخسائر لحقبة بشعة من القتل والإبادة ودون معالجة جدية لملف الذاكرة الدامية!!
كان عنفا دمويا لم يشهد تاريخ الاستعمار مثله في قارة إفريقيا. وقد مارس الطرف الكولونيالي أبشع أنواع التنكيل والتعذيب ضد الجزائريين، واعتمد أسلوب الصعق الكهربائي، واستخدم الآبار المائية كسجون، وألقى معتقلين من مروحيات، كما ألقى قنابل النبالم على العزّل، وأنشأ في 1956 و1958 خطي موريس وشال وهما عبارة عن حقل ألغام محصور بالأسلاك الشائكة المكهربة بقوة 5000 و6000 فولت، ورفضت فرنسا أن تمنح الجزائر حتى بعد الاستقلال خريطتهما وظل كابوس اقتلاع الألغام يؤرق الحكومات الجزائرية لعدة عقود كما تم تهريب أرشيف الجزائر إلى فرنسا لإخفاء الجرائم وطمس الحقائق. كان المستعمر يعتبر الجزائر امتدادا لفرنسا وهذا النوع من الاحتلال يسمى استيطانا وليس انتدابا أو مجرد استيلاء على الثروات؛ وظل الاستعمار ينفذ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻹﺩﻣﺎﺟﻴﺔ بالقوة والقهر لـ"فرنسة" ﺍﻟﺸﻌﺐ الجزائري من خلال تغيير هويته وثقافته ولسانه بفرض التعليم الفرنسي ومنع اللغة العربية من المدارس وتفكيك وحدته الداخلية مستخدما الجزائريين من أصول أوروبية لزرع الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، إضافة إلى إثارة النعرات العرقية بين عرب وأمازيغ أو بربر واستخدام ورقة الدين للتفرقة بين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين ظلوا لآلاف السنين يعيشون في وئام اجتماعي ونسيج ثقافي متعدد ومتنوع حتى جاء مرسوم "كرميو" الذي أعطى حق الجنسية الفرنسية لليهود والمسيحيين فقط بينما حرم المسلمين منها، وهو ما أحدث شرخا في بنية المجتمع وزرع الكراهية والحقد بين أبنائه في نفس الوقت الذي زادت مشاعر الكراهية البغيضة نحو المستعمر ولم يعد الاعتذار كافيا لأجيال متعاقبة في الجزائر هم ضحايا لثقافة الغضب والكراهية نلومهم بل ننتقدهم لأن "الزبد" مازال عالقا بأفواههم!
olfa@aucegypt.edu