العالم لم يعد يغنى، ولم تعد تمتلك "خمسة لقلبك"، ولا تجد من يسألك "أين تذهب هذا المساء؟".. الجو العام سخيف فعلى الرغم من السماوات المفتوحة على الهزر والاستخفاف والقبح لكن العالم حزين، مليء بالضجر.. أليس كذلك يا سيد "بيسوا"؟ ألست أنت القائل "من نفس المكان يضجر الناس وأنا من وجودى فى ذاتي أليس خليقا بى أن أضجر؟".
لم تكن يا "بيسوا" شكاء أو صاحب علة، أو حتى من ذوى النظرة السوداوية، فصديقك "ريتسوس" رأى ما رأيت وأصابه الضجر.. أتعرف يا سيد بيسوا أنه قال بعد أن أرهقه الملل "هكذا تلف كل شيء.. حتى الشيء الذى أدهشنا يوما..هو الآن مبتذل وبائخ..ليست الأشياء وحدها تبهت.. وإنما عيوننا تبهت أيضا"؟
حتى محاولات "بودلير" لتفادى كل الطرقات التى اعتادها الملل أصابها الوهن.. سمعته يقول ذات مرة وأظنك سمعته معى أيضا يا سيد "بيسوا": "كن رجلا عظيما وقديسا فى نظر نفسك قبل كل شيء". كان يحاول النظر بعيدا عن هذا العالم المتغطرس، الغارق فى السخف، كان يدافع عن نفسه ضد الأحكام المسبقة التى يطلقها الحمقى ليذكرونا أنهم هنا وأن كل محاولاتنا للهروب من أعينهم الزجاجية المخيفة محض هراء.
لم تكن تلك المحاولة الأولى لـ"بودلير" كما تعرف يا "بيسوا" فقد وقف ذات مرة ليمنح نفسه ويمنحننا معه قبسا من شجاعة لمواجهة تلال القبح والرداءة.. أتذكر ما قاله يا "فرناندو": "أن تنفرد يعنى أن تختلف، ولا بأس فى أن يكون البلد كله فى مواجهتك، العالم كله ضدك، العصر كله منفى لك، تلك ضرائب على الداندى أن يتقبلها كأوسمة وعطايا إلهية".
"بودلير" حاول كثيرا لمقاومة الملل والرتابة لكنه كما تعرف أيها البرتغالى ذى الشارب الأنيق لم يسلم من طنين الاستسلام أظنك سمعته ذات مرة يقول وكان إذا لم تخونى الذاكرة يضع اللمسات الأخيرة لـ"سأم باريس": "خامرنى وأنا طفل، إحساسان متناقضان: التقزز من الحياة والانتشاء بها". كل ما كان حول هذا المسكين الذى هده التعب يدعوه للتقزز من الحياة وكل محاولاته للانتشاء بها لم يكن إلا لاقتناص المعنى الهارب للجمال.
حتى ميلان كونديرا يا رجل لم يستطع التصالح مع هذا الركام الهائل الذى يسمونه العالم أتذكر ما قاله فى نوبة من نوبات ضجره: "إن كل شيء فى هذا العالم مغتفر سلفا وكل شيء مسموح به بوقاحة"؟
"كونديرا" يا "بيسوا" كيان مليء بالضجر فعلى الرغم من جلوسه إلى البيانو ساعات طويلة وعلى الرغم أيضا من "غراميات مضحكة"، و"المزحة"، و"كتاب الضحك والنسيان" لكنه دائما ما كان يكتشف أن الـ"كائن لا تحتمل خفته" وأن العالم "حفلة التفاهة" لذا تيقن يا بيسوا من أن "الحياة هى فى مكان آخر" فعزف "فالس الوداع" وسار بمنتهى "البطء" نحو "الخلود".
اسمع يا سيد "بيسوا" خليق بك أن تضجر فى هذا العالم التعس لكن هذا لا يعنى أن تترك الوهن يتسرب إلى قلبك الثائر، المفعم بالحب، بالجنون، وأعلم أن حالتك ليست استثنائية فكلنا كذلك وهذا ليس عيبا، أو ضعفا، "فحتى أعظم حيتان البحر ليس لديها أى قوة فى الصحراء" أو كما قال "كونفوشيوس".