ذكرنا في المقال السابق أن أسباب زيادة المواليد عادة ماتكون لأسباب مركبة ومتداخلة مع بعضها البعض، منها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني، وليس لسبب واحد فقط. في هذا المقال نحاول تفسير الحالة المصرية من واقع ممارستي المهنية لاكثر من ٣٠ سنة.
وكما ذكرنا سابقا، فإن المناطق الريفية والصعيد هما الاكثر في زيادة اعداد المواليد حيث يعتبر الابناء هم العزوة وهم مصدر الدخل للاسرة. ومن خلال ممارستي المهنية، قابلت امثلة عديدة لتعدد مرات الحمل والولادة، معظمها لمراهقات (دون الثامنه عشرة) وسيدات في مقتبل العمر. وكانت المرأة فيها الضحية نتيجة عوامل متداخلة اهمها الفقر والتسرب من التعليم، والضغوط الاجتماعية وقلة حيلة المرأة في مجتمع ذكوري النزعة، خاصة في الريف المصري. ففي بداية حياتي العملية وأنا طبيب امتياز جاءت سيدة في ساعات الفجر بنزيف شديد بعد الولادة كاد ان يودي بحياتها. قام الاطباء بعمل اللازم وتم نقل عدة أكياس من الدم واخذها الي غرفة العمليات. السيدة كانت تعاني من انفجار في الرحم مما استدعي استئصاله. المريضة تعافت والحمد لله، وفي اليوم التالي ذهبت لمتابعتها، لفت نظري ان سنها ٢٤ سنة، وكان هو نفس سني تقريبا. الا انها كانت تبدو كسيدة في الخمسين من العمر، مرهقة وشاحبة وكئيبة. سألتها ماذا حدث؟ قالت هذه هي الولادة رقم ٥، وكل ولاداتي كانت بالداية في البيت. هذه المرة كانت صعبة والداية اعطتني حقن كثيرة وبعد الولادة حدث لي نزف شديد ونقلوني المستشفي. سألتها عن اولادها قالت عند ٤ بنات، اكبر بناتي عندها ٩ سنوات لاني تزوجت وانا عندي ١٤ سنة. سألت عن عمل الزوج قالت فلاح، وظل هو ووالدته يطالباني بالحمل لكي أأتي له بالولد، وكل مرة ألد فيها بنتًا يقولان المرة القادمة تلدي الولد. سألت وهل ولدتي هذه المرة الولد، قالت للاسف ولدت بنت خامسة، وزوجي حزين جداً وربما يتزوج بأخري لتأتي له بالولد.
هذه القصة الحقيقية تلخص واقع الاسرة في الريف المصري وتجمع معظم الاسباب التي ادت الي الزيادة السكانية في مصر. فهذه السيدة الفقيرة لم تتعلم لاهي ولا زوجها، وتزوجت في سن ١٤ سنة، وانجبت ٥ اطفال دون استخدام لوسائل تنظيم الاسرة، وظلت تحمل وتلد كل عامين الي ان تنجب الذكر، وهو مالم يحدث. ولولا ان القدر قَدًرَ لها ان تفقد رحمها لظلت تنجب الي ان يأتي الذكر او تفقد هي حياتها. هذه السيدة كانت تتعرض لضغوط من والدتها ووالدة زوجها لانها تنجب البنات، وكانت تشعر دائما بأنها مهددة بالطلاق لانها لم تنجب الذكور، عكس زوجة اخو زوجها التي انجبت لزوجها ٤ ذكور بينما انجبت هي ٥ اناث. انها متلازمة مركبة لواقع الريف والصعيد المصري، الذي تتداخل فيه عوامل كثيرة أهمها الفقر مع الجهل، ووضع المرأة المغلوبة علي امرها التي لاتستطيع ان ترفض طلب الاسرة بالاستمرار في الحمل والولادة.
ولكي اكون موضوعيًا، فيجب ان اعترف انني قابلت في حياتي العملية العديد من الاسر الغنية التي تسكن المدن، والتي تفتخر بأنها أُسر كبيرة الحجم (من عيلة كبيرة)، وان لها العديد من الاولاد والبنات، من ذوي الجاه والمناصب. كما اعترف ايضا بأن بعض الزملاء من اعضاء هيئة التدريس في الجامعة كانوا يحرصون علي زيادة عدد الابناء، وان بعضهم قد انجب اكثر من ٦ ابناء. بمعني آخر انه ليس الريف وحده، ولا الصعيد وحده، ولا الفقر وحده، ولا الجهل وحده، هم اسباب الزيادة السكانية في مصر، وانما العادات الاجتماعية والمورثات الثقافية التي نشأ عليها المجتمع المصري منذ آلاف السنين.
اما المعتقدات الدينية والفهم المغلوط للدين فيظل محصورا في طبقة قليلة في المجتمع المصري، وهي التي تُمَثل الجماعات السلفيه التي تعارض استخدام طرق تتظيم الاسرة، وتطالب بزيادة النسل لنصرة المسلمين ومحاربة اعداء الدين. وهذه الجماعة ينتشر بين اتباعها ايضا تعدد الزوجات، فتجد الرجل منهم متزوجًا من ثلاث او اربع زوجات، وكل زوجة عندها ٥ ابناء او اكثر. اما الاسباب السياسية فتأتي في نهاية اسباب الزيادة السكانية في مصر. وان كنت اعتقد ان بعض الجماعات كانت دائمآ تستخدم الوازع الديني في الدعوة لزيادة الابناء داخل الاسر التي تنتمي اليها لاغراض سياسية. بمعني ان الاعداد الكبيرة من الممكن ان يتم تجييشها في المعارك الانتخابية او للضغط علي الحكومة لتحقيق اهداف سياسية، ولكن يظل هذا البُعد اقل من المسببات الاخري لزيادة اعداد المواليد.
اما عن عدم توفر وسائل تنظيم الاسرة أو ارتفاع اسعارها، فلا اظن ان هذا صحيحًا، علي الاقل خلال الثلاثة عقود الماضية. فمراكز تنظيم الاسرة المنتشرة في كل ربوع مصر تؤدي عملها وبأسعار زهيدة جدا، وغالبا ماتكون بدون اي تكلفة. وكذلك برامج التوعية التي تنصح السيدات باستخدام طرق تنظيم الاسرة متواجدة ومسموعة ومرئية، ولذا فلا اعتقد ان لهذا السبب دوراً كبيراً في مشكلة زيادة اعداد المواليد في مصر. صحيح ان هناك نسبة غير قليلة من الحمل (حوالي ١٠-١٥٪) تحدث بسبب فشل طرق منع الحمل، مثل نسيان الحبوب او الحمل علي اللولب، ولكنها تظل نسبة غير مؤثرة بالنسبة للعوامل الاخري. واظن ايضاً ان العامل الاهم علي الاطلاق في تنظيم الاسرة هو النمو الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للاسرة المصرية. أو كما اعتدنا ان نقول للطلاب في كليات الطب: احسن طريقة لمنع الحمل هو النمو الاقتصادي والاجتماعي.
Socio-economic development is the best contraceptive.
وللحديث بقية عن بعض التجارب الدولية الناجحة في مجال تنظيم الاسرة.