كنا في الحلقات السابقة تحدثنا عن أبرز صفات الموسيقى وتأثيرها العلاجى، ولأن الاستفادة من الموسيقى في علاج بعض الأمراض النفسية والعقلية والعضوية أصبح حقيقة عالمية لا تقبل الجدل أو الشكل، فمن الضرورى أن يرتبط وجود استقرار هذه الحقيقة بظهور أساليب مختلفة للعلاج بالموسيقى.. لكل أسلوب قواعده المستمدة من نوع الحالة المطلوب علاجها.
تعدد الأساليب يعنى الاعتراف بصعوبة أو استحالة تطبيق أساليب أو قواعد جامدة مع كل حالة.. وذلك لاختلاف وتنويع الشعوب والأفراد والحالات المرضية، والبيئة.. في هذه الحلقة نوضح الأساليب المختلفة للعلاج بالموسيقى.
الأسلوب الأول
يعتمد على اختيار المريض لنوع الموسيقى التى يفضلها.. حيث يختارها بنفسه من مكتبة موسيقية تحتوي على مجموعة كبيرة من المؤلفات الشعبية والكلاسيكية والرومانسية والقومية والحديثة وغيرها.. ثم يطلب من المريض تحديد المقطوعات التي تروق له، وكذلك تحديد ما لا يعجبه وبالمناقشة حول أسباب إعجاب المريض بهذه المقطوعة أو تلك، وأسباب عدم اعجابه بمجموعة أخرى، يتمكن المعالج من معرفة الحالة النفسية والمزاجية للمريض.. ويستطيع أيضًا أن يكتشف ميوله، وما تنطوى عليه أعماقه من رغبات وأحاسيس أو ظواهر مرضية.
وينصح الخبراء بعدم توجيه اسئلة مباشرة تستهدف فهم شخصية المريض... لأن ذلك ربما يشعره بالحرج أو الارتباك.
الأسلوب الثانى
يستند هذا الاسلوب إلى سماع المريض ثلاث مقطوعات موسيقية.. المقطوعة الأولي تعبر عن مشكلة خاصة، ويستحسن أن تختار برضاء المريض، وفى بعض الأحيان يختار المعالج بنفسه المقطوعة التي يراها مناسبة للحالة التي يعالجها. وإذا لم يجد المقطوعة المناسبة، فإن المعالج الموسيقى يقوم على الفور بارتجال القطعة الموسيقية المتفقة ومتطلبات الحالة.
ولقد استخدمت هذه الطريقة – أى طريقة الارتجال – بنجاح في عدد من مراكز العلاج بالموسيقى في الدول المتقدمة.
وأثناء الاستماع للمقطوعة الأولى، يستطيع المعالج أن يكتشف الكثير من اسباب الحالة المرضية من خلال التعبيرات التى تظهر على وجه المريض، ويستفيد من ذلك في مراحل العلاج ويقول الخبراء انه ينبغي أن ننصح المريض أثناء سماع المقطوعة الأولى بالتفكير في المشكلات والمحن والتجارب التى اعترضت حياته، سواء اكانت نفسية أو عضوية.
والمقطوعة الثانية ينبغى أن تتوافر لها بعض الشروط المهمة، وهي أن تكون هادئة، تبعث الثقة والطمأنينة في نفس المريض، وتزيل آثار المقطوعة الأولى المعبرة عن ثورة أو مشكلات أو هموم المريض الكامنة في نفسه، وينبغي أن تتوافر أثناء سماع المقطوعة الثانية وسائل الراحة والاسترخاء بقدر الإمكان. وننصح المريض أثناء ذلك بالتفكير في كل ما هو جميع ورائع في الطبيعة من ورود وجبال وأنهار وتناسق في الألوان.
كما ينصح الخبراء بأن يكون الضوء في المكان ضعيفًا، لكنه يسمح بقراءة حروف جريدة.
ثم تأتي المقطوعة الثالثة... وتقوم بوظيفة بالغة الأهمية، إذا توقظ المريض من حالة الهدوء والاسترخاء وتبعث الشعور بالقوة والانتصار. كما ينبغى أن تكون الاضاءة قوية أثناء عزف المقطوعة الثالثة لكي تسهم في تحقيق الهدف المنشود والمتمثل في بعث الثقة الكاملة في المريض، والإقبال على الحياة، ومساعدته على التفكير في الأنشطة الرياضية والفنية والاجتماعية المعبرة عن الطابع الاجتماعي الصحيح للشخصية الإنسانية.
بعد ٤ إلى ٨ جلسات موسيقية يستطيع المعالج الوصول بالمريض إلى الهدف المطلوب.
الأسلوب الثالث
من الطبيعى أن يتأثر الجسم وينفعل ويتمايل عندما يقوم أى إنسان برتنيم لحن له القدرة على إحداث هذا التأثير.. في هذه الحالة يمكن للعين الباحثة عن أسرار العلاقة بين الموسيقى والجسم أن تلاحظ أعضاء وعضلات وانفعالات هذا الجسم في حركتها المصاحبة للموسيقى مما يسهل للمعالج معرفة آثار وانطباع هذا النوع من الموسيقي لدى مستمعه، وبالتالى يسهل تشخيص نفسيته وانفعالاته الداخلية.
فالجسم يترجم الأصوات ليس وفقًا لخصائصها فقط، بل وأيضًا وفقًا لمزاجه ونفسيته الخاصة.. ومن هنا نلاحظ أن المستمع مثلًا، أثناء الاستماع، أو المغنى، أثناء الغناء، يعيش لحظة من اليقظة القلبية والجسمانية الفريدة، تتجسد في صورة تعبيرات قوية، تسهم بدور كبير في التنفيس عن الطاقات الزائدة في الجسم، حتى تعود اليه حالة الراحة والهدوء التى يصعب تفسيرها بمعزل عن فهم العلاقة المتبادلة بين الموسيقى والنفس والجسم.
بهذا الأسلوب يسهل للمعالج وضع برنامجه وفقًا للحالة التى أمامه.
الأسلوب الرابع
يستفيد هذا الأسلوب من الإيقاع الحركى لـ "دالكروز".. وما يحققه هذا الإيقاع من تعبير عن المشاعر الداخلية الكامنة في أعماق الإنسان، وتخليصه من الضغوط النفسية الداخلية.
هنا تلعب الحركة الجسمانية مع الموسيقى دورًا بارزًا.. وعن طريق هذه الحركة، يعبر الجسم عن ذاته بحرية في تنسيق وتوافق.. ويستفاد من ذلك في تحويل الحركات إلى أداة للتعبير عن أعماق النفس وتفريغ شحناتها.
والخطوة الأولى لهذا الأسلوب تبدأ بعزف مقدمة موسيقية قوية، بحيث تستطيع تحريك جميع أعضاء الجسم.. وبعد ذلك تركز الحركات على أجزاء معينة من الجسم، بانسجام يتفق مع إيقاع الموسيقى التى توحى بالهدوء وتمتاز بالنعومة عن طريق الموسيقى المعبرة لذلك.
والنتائج التي حققها الخبراء بواسطة هذا الأسلوب تتمثل في الاحساس بحب الحياة، وتنشيط القلب، والرغبة في تحقيق التوافق والانسجام بين نشاط الجسم الداخلى والعالم الخارجى. ويمكن أيضًا الاستفادة بهذا الأسلوب في صورة نشاط الكشافة للأطفال والشباب... يستفاد منه بإخراج الطاقة المدفونة داخل الجسم والتى قد تتسبب في كثير من حالات العقد النفسية، التى بدورها – إذا ما تدرجت – قد تؤثر على الحالة الجسمية والفكرية وربما العقلية.
وبالمناسبة، فإن استخدام الكشافة داخل نشاط الكنيسة يفيد كثيرًا، ليس فقط لإيجاد الإنسان السوى نفسيًا وصحيًا، بل وأيضًا في تسهيل مهمة التعليم، بإيجاد العلاقة الطيبة بين الأطفال والشباب وبين مدربيهم، حيث يمكنهم – عن طريق اللعب والمرح – تسهيل بث المبادئ والتعاليم السليمة من خلال هذا النشاط الحيوى المجدى.
الأسلوب الخامس
وهو يناسب بصفة عامة المثقفين والموسيقيين، ويمتد أثره إلى فئات أخرى.
ففى حالة الموسيقيين يستحسن أن يقوم المريض بتأليف أو ارتجال قطعة موسيقية تعبر عن مشاعره وأحاسيسه الخاصة.
** ومن خلال هذا التعبير يمكن تحقيق عنصرين متلازمين:
العنصر الأول هو تفريغ الطاقة الضارة من النفس. والعنصر الثانى يتمثل في مساعدة المعالج على معرفة نوع الحالة المرضية من خلال تعبير القطعة الموسيقية.
وفى حالة المرضى من المثقفين، الذين يتمتعون بقسط وافر من التذوق النقدى، ينبغى الاهتمام برأيهم فيما يعزف لهم من موسيقى.. وسؤالهم عن تكوينها وتأثيرها، ومدى إمكانية عمل دراسة عامة لها.
أما بالنسبة للمرضى من غير المثقفين أو الموسيقيين، فغن العالم " أورف" يعتبر صاحب الفضل الأول في اكتشاف طريقة فريدة تعتمد على العلاج الجماعى وتنهض على أساس الاستفادة من الأنغام الإيقاعية بمساعدة استخدام المريض لآلات الطرق.
وفى هذه الحالة يسيطر الإيقاع على المرضى، ويؤثر فيهم ويتحقق من خلال هذا التأثير الاتزان النفسى.
الأسلوب السادس
يتميز باشتراك عناصر أخرى إلى جانب الموسيقى.
فهناك فريق من الخبراء ينصح بالاستعانة بالتدليك والألوان مع الموسيقى، كعوامل مساعدة للوصول إلى الهدف المطلوب.
ويرى المبتكرون لهذا الأسلوب ضرورة رقاد المريض ممدًا على ظهره، وأن تعزف له موسيقى بلا إيقاع لمدة تتراوح ما بين ١٠ إلى ١٥ دقيقة.. تصاحبها الألوان الثلاثة، الأحمر والأزرق والأصفر.
تأتى بعد ذلك الخطوة الثانية: وتتمثل في عزف موسيقى إيقاعها ثابت وبطىء (أي ٦٠ ضربة في الدقيقة تقريبًا). وتستمر هذه الموسيقى من ١٥ إلى ٢٠ دقيقة.
مع سماع الموسيقى، يقوم متخصص بتدليك سطحى خفيف للأيدى والوجه والرقبة من الخلف... لأن هذا النوع من التدليك المصاحب للموسيقي يساعد على التخلص من أى شد داخل أعضاء الجسم. وإذا كانت الخطوة الأولى تستلزم وجود الألوان الثلاثة التى سبق ذكرها، فإن الخطوة الثانية كنتيجة تأتى بظهور اللون الأزرق فقط. والمرحلة الأخيرة من هذا السلوب تستهدف إعادة المريض بالتدريج إلى حالة اليقظة الكاملة وذلك عن طريق عزف موسيقى تتدرج شيئًا فشيئًا نحو شدة الايقاع والنغم.. وتعود الألوان الثلاثة، الأحمر والأزرق والأصفر، إلى الظهور مرة أخري. وعندما تعود اليقظة التامة إلى المريض، يحاول المعالج الحديث معه – إذا توافرت لديه الرغبة – ويشجعه على التعبير عن مشاعره أثناء الفترة التى عاشها مع الموسيقى.
الأسلوب السابع
يعتمد على عنصر الاسترخاء العضلي والنفسي كمقدمة ضرورية للعلاج، وفقًا لما أشار اليه شولتز(Schultz) وتتحرك خطوات هذا الأسلوب على النحو التالي:
* في الخطوة الأولي: يتركز الاهتمام حول توفير الوضع المريح لجلوس أو استلقاء المريض.. ومع مصاحبة الموسيقي الشاعرية، يحدث الاسترخاء العضلي والذهني، وينتظم التنفس، ثم يعقبه النعاس في بعض الأحيان.
*والخطوة الثانية: تتمثل في توجيه المريض – أثناء سماع الموسيقي – نحو تركيز ذهنه على اليد اليمني، ثم اليسري وينتقل التركيز بعد ذلك إلى القدم اليمني، فاليسري.. ثم التركيز على الجسم كله.
وفى هذه المرحلة يشعر الإنسان بحرارة على هيئة أمواج تتخلل الجسم، ويحس بقدرته على التركيز الذهني نحو الهدف المطلوب، بلا تشتت.. إلى أن يتم الاستيقاظ تدريجيًا، وفى هدوء بواسطة نوع آخر من الموسيقي.
إن تدريبات هذا الأسلوب تسهم في تنظيم ضربات القلب والتنفس.. كما أن الشهيق والزفير يصبحان في حالة من العمق والانتظام، بما يتفق مع أفضل الطرق الصحية والعلاجية.
لقد أطلق الخبراء على هذه التدريبات تعبير "الاسترخاء " (Détente)، وهي لا تفيد المرضي فحسب، إنما تفيد أيضًا كل إنسان يريد الاحساس بالراحة التامة بعد عمل أو مجهود شاق.