"ابنتي إيزيس.. ابني أمير.. أرجو أن تعيشا مصرًا أحسن من تلك التي عاشها أبوكما وأن تذكراني".
هكذا تمنّى الروائي الراحل عبد الحكيم قاسم، لابنيه في إهدائه الذي سطَّره لهما في قصته الطويلة "المهدي" التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي.. إهداء قاسم ربما نبع من خوفه على الأجيال الجديدة من سطوة التيارات الأصولية المتطرفة وإحكام قبضتها على الروح والعقل والخيال، وربما كان نبوءة بما ستؤول إليه الأحوال، ليس في بلادنا وحسب ولكن في العالم كله.
"المهدي" شرَحتْ بعمق التيارات الأصولية المتطرفة، التي لا يشغلها سوى تغطية المجتمع، وهداية أصحاب العقائد الأخرى لما تعتقده هي، مستخدمة في ذلك إشاعة الخوف والفزع والذبح العلني، وكأنهم ظل الله على الأرض؛ كما كشفت عجز السلطة المهيمنة في القرية -المكان الذي تدور به القصة- أمام أحد هذه التيارات، وفضح عدم تدخلها لمنع استغلال هؤلاء المجرمون لفاقة "المعلم عوض" القبطي، صانع الشماسي الذي قذفت به حاجته إلى هذه القرية، ولم تمنع هذه السلطة المتمثلة في العمدة محاولات الجماعة المستمرة للضغط على صانع الشماسي لهدايته وضمّه إلى حظيرتها؛ لم يجد "المعلم عوض" سبيلًًا للنجاة من أيديهم سوى الاستسلام والانهيار تحت وطأة اليد الغليظة التي تحاول انتزاعه من جذوره وفصله عن جماعته، وفي طريقه معهم ليعلنوه واحدًا منهم خارت قواه، وخرّ مغشيًًّا عليه وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم التي تصاعدت وتيرتها، لينهار السقف فوق رؤوس الجميع أيًّا كانت عقائدهم.
بعد سنوات طويلة من صدور "المهدي" صدرت رواية "كيرياليسون" للروائي هاني عبد المريد، الرواية جاءت دون إهداء، ربما لا وقت للإهداءات أمام الحاجة الماسة إلى رصد التحولات التي شهدها المجتمع، علّنا نلمح في الأفق طوق نجاة من تداعيات هذه التحولات التي نبتت معها شخصية البلطجي الذي لا يعرف قيمًا ولا أعرافًا، وخارجًا دائمًا عن القانون.
وكذلك ما مارسته الأنظمة السابقة من إقصاء مواطنين أصليين، وحبسهم في سجن الهامش، يعانون الفقر والمرض والجهل، لا يعولون في غياب العدل الاجتماعي إلا على الحلول الغيبية، ومن ثم يغيب العقل والوعي ويحل التطرف والإرهاب، ليتحوَّل المصريون جميعهم
إلى متن الهامش، ونعيش "التراجيديا الكبرى التي لا تتمثل في الاضطهاد والعنف الذي يرتكبه الأشرار فقط، بل في صمت الأخيار على ذلك" أو كما قال مارتن لوثر كينج.
تصادف قراءتي لهاتين الروايتين للمرة الخامسة، وبنظرة من نافذة واسعة على ما يجري حولنا، لا أملك إلا أن أقول: "كيرياليسون"، أو" لا تدخلنا في تجربة.. ونجّنا من الشرير.. آمين ".