تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
للمكان سطوة كبيرة ليس بوسع الإنسان الفكاك منها. وإذا كان ذلك ليس كذلك فما الذي دفع أهل اليونان لكي يطلقوا على آلهتهم الأثيرة اسم أشهر مدنهم"أثينا"، وما الذي كان وراء إطلاق الرومان اسم "نبتون" على إله البحار والأنهار والينابيع. ولماذا اعتقد الفراعنة أن الخلود يكمن في معابدهم وأهراماتهم؟
وبما أن المكان يشغل حيزا كبيرا في حياة الناس بشكل عام فإنه يمثل للفنانين على نحو خاص شغفا وولعا لا يحتاج إلى دقة في الملاحظة عند النظر إلى أعمالهم.
جاء المكان ثيمة أساسية في أعمال العديد من الكتاب والشعراء عبر العصور وإذا نظرنا إلى عصرنا الحديث وفي مصر على سبيل المثال نجد نجيب محفوظ الذي كتب عمرا أطول من المقدر لأماكنه الأثيرة على أرض الواقع مثل (زقاق المدق، قصر الشوق، السكرية، وغيرها).
المكان لم يكن محور اهتمام الكتاب والشعراء فحسب لكن كان للفنانين التشكيليين ولع خاص به وشغل حيزا كبيرا من أعمالهم الفنية منذ العصور الحجرية الأولى وحتى سيف وانلي الذي برزت الإسكندرية في غالبية أعماله وأخيرا وليس آخرا الفنان التشكيلي عمر الفيومي الذي احتضنت قاعة النيل بالزمالك مؤخرا معرضه الذي جاء تحت عنوان "كأننا في القاهرة" وضم تسعين لوحة مختلفة الأحجام شكل المكان فضاء أغلبها.
عمر الفيومي المعروف برسام الأيقونات تخرج في كلية الفنون الجميلة في عام 1981 وبعد خمس سنوات أقام خلاله ثلاث معارض سافر إلى روسيا ليتتلمذ على يد الفنان التشكيلي وأستاذ التصوير الروسي الشهير أندريه ميلينيكوف ليحصل فيما بعد على درجة الأستاذية في الفن.
على الرغم من حصول الفيومي على درجة الأستاذية لكنه رفض عقب عودته إلى القاهرة عروضا بالاشتغال بالتدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا هربا من القيود التي تفرضها الوظيفة وليحافظ على عادته المحببة إليه وهي التجول في الأحياء التي أحبها وأحب أهلها فمن ملامحهم وطقوسهم ومفردات حياتهم اليومية وطريقتهم في العيش أستقي الأفكار التي حولها إلى خطوط وألوان.
مزج الفيومي في لوحاته بين المصرية القديمة وروح الأحياء الشعبية العتيقة وبين الحداثة من خلال الخطوط والألوان.
ارتبط عمر الفيومي منذ صباه الباكر بالشارع إذ يعرف بين أقرانه بالمشاء حيث يتأمل تفاصيل الناس والمباني العريقة وعندما يستبد به التعب يبحث عن أقرب مقهى ليستريح وفي هذه الاستراحة لا يتوانى عن متابعة رواد المقهى فضلا عن عماله.
وعلى سيرة المقهى الذي يعتبر أيقونة أشتهر بها عمر الفيومي إذ يحتل المقهى حيزا كبيرا من أعماله التي قدمها منذ الثمانينيات وحتى الآن حيث قدم المقهى بمعناه الشعبي وليس بمعناه الثقافي فقط مثلما فعل الفنانون التأثيرون في فرنسا.
إلى جانب المقاهي تحتل المرأة مساحة أخرى لا بأس بها في أعماله فهو مولع بتصوير النساء.. ونساء الأحياء الشعبية على نحو خاص.
عمر الفيومي المشاء الذي لا يتوقف عن سعيه لتسجيل واقعه ومجتمعه بظروفه ومتغيراته وتحولات أبنائه إلا أنه آثر أن يقدم في معرضه "كأننا في القاهرة" المدينة التي عشقها وتفتح وعيه على نظافة شوارعها وفخامة وأناقة أهلها وبسطاتهم وأخلاقهم. تلك المدينة التي يهددها من آن لآخر شبح الهدم وانتشار العشوائيات والمحال الاستهلاكية وورش تصنيع الأثاث الشعبي أو الرخيص.. الخالي من أي ملمح من ملامح الذوق والجمال لتحل محل المباني والعمارات التاريخية بتصميماتها الفريدة وجمالها الذي يشي بعظمة العصور التي شيدت خلالها.
كما قدم في هذا المعرض مجموعة كبيرة ومختلفة الأحجام من البروتريهات التي تشبه إلى حد كبير أيقونات الفيوم أو ما تعرف بوجوه الفيوم وقد ميزت هذه اللوحات مشروع عمر الفيومي للدرجة التي تجعل من يشاهدها يعرف من هو الفنان الذي أبدع هذه الأعمال من دون أن ينظر إلى التوقيع أسفل اللوحة.