في الوقت الذي تتناقل فيه وسائل الإعلام قصة طبيب الأسنان المتحرش والذي ينتظر حاليا المحاكمة، لاحظت تعليقات بعض الخيرين الذين يشعرون بالحزن لتداول خبر الطبيب المتحرش على نطاق واسع داخليا وخارجيا ويعتبرون أن مثل هذه الأخبار تشوه مصر الزاخرة بالقصص الإيجابية والإنجازات غير المسبوقة.
والحقيقة أن مشاعرهم مُقدّرة وخوفهم على بلدهم أمر محمود، غير أن التشويه في رأيي لا يصيب وطنا بأكمله عندما يرتكب فرد أو حتى عدد من الأفراد أفعالا مشينة أخلاقيا وإنسانيا ودينيا.. على العكس من ذلك، يُحسب للوطن وأنظمة العدالة فيه التحقيق مع المتهم وتقديمه للمحاكمة ونيل عقابه وإنصاف المتهمين. والأمر الإيجابي في نظري هو أن هذه الجرائم الجنسية أصبحت تحت المجهر، وهناك وعي متنامي داخل المجتمع للكشف عن هذه الممارسات التي طالما كانت في طي الكتمان من الضحايا والمجتمع المحيط بهم.
وبنظرة موضوعية من حولنا على ظاهرة التحرش والاغتصاب، نلاحظ أنها موجودة في مختلف دول العالم، وأبطالها ليسوا فقط شخصيات عادية بل هناك رؤساء ومسئولون متورطون في هذه الجرائم في حين يُفترض أن يكونوا قدوة حسنة ومثالا يُحتذى به في مجتمعاتهم. وقد لاحقت الفضائح الجنسية شخصيات شهيرة وقتما كانت في مناصبها مثل الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، والرئيس الإسرائيلي السابق موشيه كاتساف، والمدير العام السابق لصندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس، والوزير الفرنسي جورج ترون، ونائب رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية دنيس بوبان وغيرهم.
وتنشر صحافة دول العالم يوميا قصصا عن متحرشين ومغتصبين في جرائم بشعة ومع ذلك لم تؤثر أي من تلك القضايا على صورة تلك البلدان أو سمعتها بل هناك اتجاه عالمي لتبني سياسات للمساعدة على الكشف على الممارسات التي تتضمن انحرافا سواء جنسيا أو فسادا في الإدارة أو تلقي رشاوى لتسهيل الأعمال. وهي سياسات أصبحت تتبوأ حيزا مهما في مفهوم الحكم الرشيد لدى الدول وعدالة الفرص أمام مواطنيها وتحسين بيئة العمل بما في ذلك تمكين المرأة ومنع الإساءة لها أو استغلالها.
وقد شاهدت منذ فترة قصيرة مسلسلا عن روجر آيلز وهو شخصية إعلامية أمريكية شهيرة كانت تملأ الدنيا بضجيجها من خلال قناة فوكس نيوز التي أسسها سنة 1996 مع الملياردير روبرت مردوخ.
ويوثق المسلسل، ممارسات التحرش واستغلال المنصب من طرف آيلز لإقامة علاقات شاذة مع مذيعات وصحفيات يعملن في القناة والإهانة والرفت للسيدات اللاتي لا يستجبن له. وكان آيلز يتمتع بنفوذ سياسي قوي أيضا حيث كان أحد المستشارين المقربين لرؤساء الولايات المتحدة الجمهوريين في فترات مختلفة آخرهم دونالد ترامب. وقد أجبرته القناة على الاستقالة ومات غارقا في عاره عام 2016 بعد أن رفعت جريتشن كارلسون، مذيعة فوكس نيوز في برنامج "صباح الخير أمريكا"، دعوى قضائية على آيلز بسبب التحرش الجنسي وظلت تسجل له انحرافاته لمدة تجاوزت العام لتحصل على دليل قوي لرفع الدعوى.
ودفعت فوكس نيوز ملايين الدولارات تعويضا عن الضرر الذي أصاب نساء أخريات ضحايا آيلز كما سلطت دعوى المذيعة الضوء على ثقافة الانحراف الذكوري "السام" في قناة فوكس نيوز وممارسات شاذة أخرى لموظفين تحرشوا بزميلاتهم. وحصلت المذيعة كارلسون لوحدها على تعويضات قدرها 20 مليون دولار من القناة بعد أن تم الاحتكام لعقدها مع القناة الذي يحظر الإدلاء بأي معلومات خاصة بالقناة والعاملين فيها إذا ما تركت العمل فيها أو حتى أجبرت على الاستقالة.
وتمضي الأيام وسرعان ما تُطوى صفحات سوداء في تاريخ شركات كبرى ومنظمات دولية وبلدان متقدمة شهدت فضائح جنسية لكن لم يتغير وصف أمريكا "بلد الحريات" ولم تتلوث سمعة فرنسا عاصمة الثقافة الأوروبية، وبالمثل لن تتأثر "أم الدنيا".. وسوف يعود الباحثون إلى فحص تلك القضايا ومعرفة كيف تعاملت معها البلدان ومنظومة العدالة فيها بإفصاح وشفافية وكيف كان نهجها في تحقيق العدالة وإقرار الحقوق لأصحابها وإدانة المتهمين بفعلتهم الشنعاء.
لذلك أقول للخائفين على أخلاق مجتمعنا وصورته "ارفعوا رؤوسكم عاليا مادام هناك أصحاب حق أقوياء لا يخرسهم شيء ومادام هناك قضاء يحقق العدالة لمواطنيه وكلهم أمامه متساوون؛ وقوموا أنتم بواجبكم كما ينبغي تجاه أبنائكم وأهلكم ومجتمعكم وعلّموهم حسن الخلق والأخلاق ونظافة السيرة وربوهم على الفضيلة وألا يسكتوا عن الانحرافات إذا ما تعرضوا لها أو شاهدوها!"
olfa@aucegypt.edu