الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رحلة أنثروبولوجية على ضفاف النيل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
النيل هو أكثر من نظام مائي يروي الحياة في مصر و11 دولة أخرى وتقطع مياهه 6825 كيلو مترا بل هو التاريخ. وقع بين يدي كتاب مهم يحمل عنوان "النيل..مدن وحضارات على ضفاف نهر" للدكتور نزار الصياد، والذي صدر حديثا عن دار الشروق المصرية.
يختلف هذا الكتاب عن الكتب التي تناولت حضارات النيل وقصة النزاعات المائية وغيرها، فهو رحلة أنثروبولوجية تاريخية. نستكشف معها نهر النيل كخارطة طريق ثقافية وتاريخية للمهتمين بوادي النيل عبر تركيزه على مدن بعينها وارتباطها بتطور الحضارات، ذكر النيل عدة مرات في الكتاب المقدس وفي القرآن ويتتبع الكتاب مواضع ذكر النيل وأيضا قدسيته لدى قدماء المصريين، بل يضئ الكتاب على ما يميز نهر النيل عن غيره من أنهار العالم، أولا: أنه ذو اتجاه فريد فهو يتدفق من الجنوب إلى الشمال، على عكس معظم أنهار العالم. وثانيا: رغم كونه أطول أنهار العالم فإن المياه التي تفيض منه إلى البحر أقل كثيرا مقارنة بأنهار المسيسبي والأمازون، ثالثا: أنه يفقد 60% من مياهه التي تنبع من وسط أفريقيا في مستنقعات السد وستة بالمائة أخرى قبل أن يصل إلى الدلتا بالتبخر، وهنا يشير المؤلف أن الكمية التي تصل مصر تستخدم بشكل جيد وتصب في النهاية أقل من عشرين بالمائة من المتبقي في البحر المتوسط.
فالنهر الذي يمر بثلاث مناطق جغرافية متباينة ومناخية متنوعة يتلون وتارة يصبح رماديا وتارة مشوبا باللون الأخضر وأحيانا الأحمر البني حتى يصل إلى اللون الأبيض عندما يلتقي بالنيل الأزرق في الخرطوم. يتناول الكتاب بسرد مشوق العواصم التي قامت بالقرب من النهر، فالنيل منح الحياة لعدة مدن وحضارات لم تكن لتقم دونه منها مدينة الإسكندرية عبر سلسلة من الترع والقنوات التي غذت الحياة فيها وجعلت منها منارة العالم القديم.
الكتاب مدعم بخرائط دقيقة تجعل من متعة القراءة وتتبع الخرائط رحلة مشوقة وتثير الشغف من جديد بالنيل عبر منظورين مختلفين أولهما أنه مسرح لأحداث إنسانية مهمة، وثانيا كونه لاعبا رئيسيا في تاريخ الشعوب الساكنة على ضفافه.
الكتاب يبدأ فصله الأول بالحديث عن تاريخ النهر مع الرحالة والمستكشفين هناك الطبع الكثير من المعلومات التي ربما نعرفها لأول مرة منها أن مسار النهر تشكل قبل نحو خمسة إلى ثمانية ملايين عام، أما عند أصل التسمية فهنا وجدت أنها كانت تحتاج الكثير من الايضاح خاصة أن الحضارة الفرعونية تاريخيا أسبق لليونانية لكن أشار المؤلف إلى أن أصل التسمية " نيليوس" لا أعلم لماذا توقفت بالفعل عند المسمى وأصله!! في الفصل الثاني يحدد المؤلف بدقة المنطقة الجغرافية لك منبع ورافد من روافده مع شرح وافٍ لطبيعتها والحضارات المتعلقة بها. أما الفصل الثالث فخصص لعاصمة نيل الدلتا منف "ممفيس" باليونانية، وهو متعمق في تاريخ الحضارة الفرعونية القديمة، ويلفت نظرنا إلى معلومة مغايرة نسبيا عما نعرفه عن تمركز الحضارة المصرية على ضفاف النهر فقط بل يشير المؤلف إلى أن المجتمعات البشرية في مصر كانت مشتتة نسبيا ومتناثرة.
وكان لـ"طيبة" نصيب في الفصل الرابع يناقش الكثير عن المدينة التي وصفها هوميروس في الإلياذة بـ" المدينة ذات المائة باب"، الفصل الخامس له متعة خاصة حيث تخوض الكتابة فيما كتب عن أفاريس وأخيتاتون: عاصمتي الموحد والمستعمر، أفاريس التي حكم الهكسوس مصر منها لمدة قرن ونيف، وهي الحقبة المختلف عليها حيث لم يدون تاريخ وأسماء الكثير من الحكام باعتبارهم مغتصبين ومحتلين. والتفاصيل التاريخية هنا لم يتم تناولها بأسلوب المؤرخ بل أسلوب حكاء ملم بجوانب التاريخ والأدب والعمارة وعلوم الإنسانيات.
الفصل الأكثر تشويقا بالنسبة لي كان السادس " نيل النوبة: مملكة الفراعنة السود في نباتا ومروى"، حيث يتحدث عن عاصمة مملكة كوش التي تقع حاليا في شمال السودان، ويضم الفصل الكثير من المعلومات ووجهات النظر التي تعتبر حتى الآن مثار خلاف وجدال بين علماء المصريات؛ لذا فمن المهم الاطلاع عليها. الرحلة مع الكتاب تمتد للفيوم ورشيد والإسكندرية والخرطوم وأم درمان مع إطلالة على دور الاحتلال البريطاني في مخططات السيطرة على النيل واستغلاله لتنفيذ سياساتها الإمبريالية.
بعد هذا السرد التاريخي المشوق للنيل، يقف بنا الكتاب عند محطة مهمة قبل أن نصل لدفته الثانية وهي مستقبل النيل، ساردا المخاطر والتحديات التي واجهها النيل عبر العصور وآخرها سد النهضة. لكن المؤلف يؤكد أن التكهنات بوفاة النيل كما في أوبرا فيردي "عايدة" مبالغ فيه. قائلا:" لن يموت النيل أبدا في حياتنا ولا في حياة أجيال عديدة بعدنا. وعندما يتوقف النيل عن التدفق قد لا يكون هناك إنسان على وجه الأرض ليشاهد هذا الحدث".