"إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك لمحزونون".. كلمات نحفظها عن ظهر قلب عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يودع فلذة كبده إبراهيم.. لكن في حقيقة الأمر فإن استشعار معانيها يكون أكثر تأثيرًا على قلب كل من يودع غال لديه.
فكثيرًا ما تعجز الكلمات عن وصف الحالة الشعورية التي تنتاب إنسانًا وهو يفارق شخصا عزيزا عليه؛ وخصوصًا إن كان هذا الفقيد أب عظيم ومكافح حرص كل الحرص على أن يربي أبناءه على الفضيلة وحب عمل الخير وأن يحسن تأديبهم ليكونوا أناسًا صالحين.
وإذا كان الموت هو الحقيقة الوحيدة في الوجود، التي يكرهها الجميع والتي لا مفر منها رغم مرارتها وإجبار النفوس على التسليم بها فلا دائم إلا وجه الله، إلا أن الأمر يكون بالغ الصعوبة ونحن نتلقى نبأ فقد عزيز علينا.
وقد مررت بهذه الجربة المؤلمة منذ نحو 40 يومًا بوفاة والدي، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، فشعرت آنذاك إن كانت الكلمات تأبى من حزنها أن تتحرك من سباتها فتزرف القلوب دموعها بعيدا عن مرأى العيون.. ولكن هذه هي سنة الله في خلقه.. وقد جعل الله في قرآنه العظيم قصص وعبر يسرد فيها ما يصنعه البشر ما بين الخير والشر فقال سبحانه وتعالى في محكم آياته: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ".
وفي واقع الحال فإنه ربما يموت الجسد وتصعد الروح إلى خالقها.. ولكن تظل الأعمال الصالحات خالدة تورث للأجيال.. لذا كان الرثاء هو تِعداد خِصال المتوفي والتأسّي والتعزّي بما كان يتصف به من صفات حسنة كالكرم والشجاعة والعفة والعدل والعقل ونصرة المظلوم وذلك لأخذ العبرة منها للأحياء.
ولعل في كلماتي هذه في رثاء أبي، والتي ربما تكون عاجزة عن وصف حقيقة يشهد لها كل من عرف أبي، رحمه الله، قريبا كان أو بعيد حبيبا أو غير ذلك،
أبي عبدالله طائعا لمولاه فارسا في أفعاله وما أوفاه
حزني عليك كأمواج بحر مداها لعنان السماء
لقد أورثتنا عزة ومن الرضا أغنيتنا
علمتنا أن الحرام فقر بذرته مرا وعسله شقاء
زرعت فينا قنوعا وشموخا رافعي الرأس غيظا يموت منا الجبناء
لا نصفق إلا للحق فليس لنا في المداهنة منهاجا ولم نكن للشيطان أولياء.
ألبستنا رداء الصدق فلم نرتدِ يومًا ثوب الضعفاء.
فكان أبي، ولا أزكيه على الله، شجاعا وكاريزما قوية لا يخش إلا الله، ذو هيبة، وكان سلاحه كلمة الحق والإنصاف يخفض جناحه للفقراء ويحتضن البسطاء، فقد كان يشغل منصب رئيس رقابة تموينية وكان حريصا على تنفيذ عمله دون كلل أو ملل.. وكان لا يجلس في مكتبه بل يمر من الفجر حتى قبيل المغرب على المخابز والأسواق لمحاربة الجشع والغش.. ورغم قلة راتبه لم يخنع للإغراءات المحرمة ولم تغب مراعاة الله ومصالح عباده عنه طرفة عين.. وكانت الوزارة توفر له سيارة لتنقلاته إلا أنه لم يستخدمها إلا في التحركات الرسمية من أمام مكتبه ضاربا مثالا في الحفاظ على المال العام.
وأذكر أنه في أيام صغري كان حريصًا على أن يجمعني بالأيتام في قريتى السلاموني بسوهاج وكان يشتري لنا الحلوى بالتساوي دون أن يفرق بيني وبين أحد غيري، وكان، رحمه الله، يوصيني دائمًا بالرفق باليتيم عملًا بمنهاج القرآن العظيم (فأما اليتيم فلا تقهر).. ولعلي لم أر مثله في الصبر على البلاء فبعد تكالب الأمراض عليه وتوالي الجلطات على مدى ٢٢عاما لم أره يومًا يتذمر ولم يضج بقضاء الله بل كان راضيا وصابرًا وشاكرًا.. فكان مثالا يحتذي به في الصبر والرضا بقضاء الله.
آخر كلام سأستعير أبيات الشاعر أحمد شوقي
يا أبي، ما أنتَ في ذا أولٌ كلُّ نفس للمنايا فرضُ عَيْنْ هلكَتْ قبلك ناسٌ وقرَى ونَعى الناعون خيرَ الثقلين