صارت «عن بعد» شبه الجُملة نحويا، من لزوم ما يلزم أن نطالعها في يومياتنا في كل وسائط الإعلام، هذا لا يعنى بالطبع أنها حالة رقمية مستجدة، بل يعنى أنها عمرت وعبرت كل المجالات، وقد كانت محدودة، ففى حال السياسة يوقع اليوم رؤساء حكومات، ووزراء دول اتفاقا عن بعد، وتسلم فنان مخرج جائزة كبرى في مهرجان عالمى عن بعد، وأخبرتنى زميلات الصحافة وناشطات مدنيات أن ما حضرنه عن بعد السنة الماضية فاق عدد أشهر السنة، فمؤتمرات محلية ودولية تمت عبر زووم، وسكايب، وجوجل، وأتيحت زمنا بين الساعات والأيام، بل بعضها ظل البث «أون لاين» لأربع وعشرين ساعة، حيث مواد مقروءة ومسموعة ظلت تتكرر حتى ينتقى المشاركون أوقاتهم المناسبة لمتابعتها، الزميلات أشرن إلى براح «عن بعد» الباعث على الراحة والطمأنينة أثناء التعاطى داخله، فالملابس رياضية، وكوب شاى على طاولتك كما زجاجة الماء، وأحيانا يشير إليك أهلك بالبيت بحاجتهم إليك، فتوقف البث، وتقضى غرضك ثم تعاود غير مجبر على بروتوكولات الاستئذان، ولا حس القلق والانشغال عما يحصل بعيدا عنك بالبيت. وهكذا أوجدت البشرية لها حلا، مع اكتساح الوباء حياتنا، صار اللقاء المباشر متعسرا، فمن يعطس بجانبنا هو مثار شك، أن تنطلق بالشارع وبالمؤسسسات الخدمية تقضى مشاغلك، دون كمامة وزجاجة كحول، وتحقيق التباعد سيركبك عفريت الوسواس أنك خالفت احترازا، حسبنا فرجا أننا مع مفتتح تلقى اللقاحات، والتى تظل بارقة الأمل المشرعة لهذا العام.
وفى مجال التعليم حالة «عن بعد» الرقمية، تحققت من رياض الأطفال إلى الدراسات العليا، تشارك طرفان مرسل ومستقبل، مسئولية عملية التعلم، وإن شكت الأمهات من ثقل المهمة مع أبنائهن في مراحل التعليم الأولى إذ استلزم الأمر أن يتابعن أولا بأول «أكثر من الآباء»، حتى لا يهمل صغارهن أداء الواجبات، بل صديقة معلمة «وئام على» تعمل بمدرسة خاصة بالقاهرة، حدثتنى عن ثقل مهمة منح الدرس عن بعد، وأنها ليست مهمة سهلة، تستنفد صحتك وأعصابك لو أوليتها مسئولية متكاملة، حكت لى تفاصيل التدريبات مع تلاميذها لمواد اللغة العربية، وخاصة أنها تستقبل كل أسئلتهم على «الشات»، ولتعدل بينهم تستخدم الأبجدية في طلب أسمائهم لأجل المشاركة والتحدث على التوالى، تفتح «المايك» لتلقى أجاباتهم أيضا، وهى تتناوب في الفصل الدراسي بين برنامجى زووم، وجوجل كلاس رووم، في حديثنا عن بعد أيضا عبر ماسنجر علقت بدورى على هذه المصطلحات الإنجليزية الرائجة مع نظام «عن بعد»، ميوت، ومايك، وبور بوينت، وسمارت بورد، فردت بالخصوص ما العمل ؟ الدنيا حولنا تتغير بسرعة البرق، إن لم نتابعها ونعمل بطرائقها ستتجاوزنا، وأبناؤنا تطلعهم للتقنية وممارستهم مبشرة، يتعلمونها بيسر، ويرون فيها خدمة تقدم المعارف بوسائل مختلفة، وهذا مهم تجاوزنا الحالة التقليدية وقوف المعلم أمام السبورة، ليس حلا، اليوم نقدم مواد فرجوية بصرية، سمعية ومقروءة، نصنع محتواها بأنفسنا حسب المفردات المنهجية، ونستعين بالمتاح والملائم من أشرطة عالمية في العلوم والمعارف المختلفة.
لا أنكر أنى تعلمت مما تابعت وشاركت من نشاطات رقمية «عن بعد»، فعبر زووم مثلا، متاحة طرائق للمشاركة رفقة الجماعة الذين ننخرط معهم ليس الحوارات فقط بل إشراك برامج مضافة، وكان من الطرائف التى سمعتها، أن عائلات آباء وأبناء وأحفاد صاروا يلتقون عبر برنامج «زووم» ليصلوا لبعضهم البعض من بقاع مختلفة يقيمون بها نشاطهم، أو يتشاركون مناسباتهم الاجتماعية حين تعذرت اللقيا المباشرة، وفى تراثنا الشعبى الليبى، نص شعرى شهير، ووصل إلى أشقائنا بتونس فحفظوه ورددوه، يوحى بحال «عن بعد» في وضعيتنا الكورونية، يقول بلهجتنا: «يسلم عليك العقل، ويقول لك نبيك، أما خطاوى الرجل صاعب عليها تجييك»، وفحواه أن المُخيلة الجمعية هى أيضا أوجدت حلها، فالعقل عن بُعد يتولى مهمة السلام، وإعلان المحبة، لأن القدمين تعجزان عن أن تحققا رؤيا العين المباشرة!