كنا في الحلقة السابقة تحدثنا عن استخدام الموسيقى لأجل صحة وسعادة وراحة الإنسان، وأكدنا أنها ليست فقط شيئًا ترفيهيًا، ولا هى محصورة في مجال الفلسفة أو العبادة، بل استخدمت للتأثير على النواحى العقلية والعاطفية والجسمانية والحركات اللا إرادية.. حيث إنها لغة الانفعالات والعواطف، فتغير الأحاسيس والانفعالات بشتى أشكالها، المرحة أو الحزينة، الهادئة أو العنيفة، الدافعة إلى الهدوء والتأمل أو الدافعة إلى الحماس والثورة.
فالموسيقى والعلاج رفيقا، لم يفترقا خلال أحقاب تاريخ الإنسان.. فهى من أقدم الوسائل العلاجية، لذا استخدمت منذ أقدم العصور بطريقة بدائية.. ثم تطورت إلى ما وصلت إليه في عهدنا هذا، بناء على دراسات وتجارب تقبل المزيد من التطور، وفى هذه الحلقة نواصل حديثنا عن قوة وقدرة الموسيقى على التعبير عن خلجات النفس البشرية.
- الموسيقى اتصال لا كلامي: «عندما تتوقف القدرة على الكلام تبرز الموسيقى».
الموسيقى تعمل كأنها اتصال لا كلامى، وتأثيرها اللا كلامى هو ما يعطيها قوتها وقيمتها، فكيف يمكن التعبير كلاميًا عن قُبلة عن ابتسامة؟ عن عبوس؟ عن إشارة وداع؟ أو عن نظرة تواضع؟ وكيف يمكن التعبير عما تحويه قطعة موسيقية من سيمفونية أو غيرها إلا بالموسيقي؟
• قال «جاستون» (Gaston): «لو كان من المستطاع الاتصال كلاميًا بما يسهل الاتصال به موسيقيًا لما كانت هناك حاجة إلى الموسيقي».
إن أعظم بديل كلامى للموسيقى اللا كلامية لهو شديد الافتقار إلى القدرة على التعبير.. إن الموسيقى لأقرب أنواع الاتصال اللا كلامى، يرعاها ويغذيها البشر بعمق.
إن اجتذاب الناس بعضهم إلى بعض ليس الوظيفة الوحيدة للموسيقى، لكن صفتها الفريدة تتمثل في جعلها وسيلة مناسبة للوصول إلى ما قد يظن أنه خارج للطبيعة والتأثير عليه.. حتى في الأزمنة التى كانت حضارتها تفخر بمنطقيتها، أرجع شفاء الأمراض بالموسيقى لقوى علاجية غامضة.
هذا النوع الخاص من الاتصال هو السبب في ظن الناس خلال آلاف السنين أن الموسيقى غامضة أو حتى خارقة للطبيعة، ومازال أهل الهند يسمونها «ماذراسينتا» أى سحر الأغنية.
وحتى لا ننحرف إلى طريق الأسطورة، يجب معرفة أن الموسيقى ليست فوق إدراك العقل، لكنها غامضة.. إننا لا نعرف لماذا الموسيقى جميلة، ولماذا ننفعل بها، ولكن لا يوجد ما يبرر اعتبار الموسيقى من عالم آخر.. فهذا الاعتبار خاطئ تمامًا.
فالكتابات تزخر بحالات «إعجازية» من الشفاء بواسطة الموسيقى، إلا أنه في أغلب الأحيان تخفى هذه القصص الطاقات العلاجية الأصلية للموسيقى خلف مظاهر من الخرافات، لتكون الملاحظات المسجلة مضحكة للغاية، لذا بدلًا من إلقاء ضوء يساعد على كشف موضوع غامض، تصبح أساسًا لادعاءات خرافية لا أساس لها.
فالموسيقى كتعبير لا كلامى تجمع ولا تفرق- مما يجعلها وسيلة مثالية للتكامل الاجتماعي.
٣- الموسيقى لغة الانفعالات والعواطف:
من الحقائق الواضحة أن الصوت الموسيقى هو الأكثر ارتباطًا بالعواطف والانفعالات، لذلك فإن الموسيقى أقوى الفنون إثارة وتحريكًا للنفس.. فبأثرها الفعال في النفوس، تتغير الأحاسيس والانفعالات بشتى أشكالها، المرحة أو الحزينة، الهادئة أو العنيفة، الدافعة إلى الأمان والتأمل أو الدافعة إلى الحماس والثورة، فالموكب الجنائزى يزداد تأثره بعزف مارشات الموتى. كما أن عزفًا لفرقة عسكرية كبيرة أو لطبال منفرد يساعد القوات على السير، وفى الواقع أن لم تتوافر له الموسيقى، فسيوجدها الجنود لأنفسهم بالغناء والصفير أو بإيقاع الأقدام أو بوسائل أخرى.
٤- إمكانيات الموسيقي:
إن طاقات الموسيقى معروفة لدينا أساسًا من خلال المظاهر التى تتحقق، ولأننا حتى الآن لا نعرف سوى أقل القليل عن طبيعتها وطريقة عملها، وبالرغم من العامل غير الملموس والغامض في الموسيقى، إلا أن العلماء ظلوا على مر القرون يعترفون بما تنطوى عليه من طاقات.. ويعملون على الاستفادة من هذه الطاقات بما يتناسب مع التطور في كل ميادين العلوم والفنون والآداب.
ولأن الموسيقى عبارة عن أصوات مختلفة الذبذبات، بحيث تبدو أشبه بشريط من الأنغام يشعرنا بروعة الإيقاع، فمن الممكن القول بأنها فن امتزاج الأصوات بهدف التعبير عن العواطف في قالب جميع ممتع.
والمعروف أن الصوت يحدث نتيجة ذبذبة الهواء، وكلما زادت سرعة تردد الذبذبات في الثانية زادت حدة الصوت. وتتراوح سرعة ذبذبات الصوت المسموع من ٢٠ ذبذبة في الثانية إلى ٢٠ ألف ذبذبة في الثانية.. أما ما خلا ذلك فلا يمكن للأذن البشرية أن تسمعه، إن الموجات الصوتية التى تزيد ذبذبتها على ٢٠ ألف ذبذبة في الثانية تسمى بالموجات فوق الصوتية «Ultra-soni Waves»، وتستخدم هذه الموجات في أغراض طبية، أى في تشخيص وعلاج بعض الحالات المرضية.
فالصوت، إذن يعمل على اهتزار الهواء، فيحدث موجات تترجمها الأذن، أو موجات تحسها الأطراف، فيهتز الجسم تجاوبًا، كما كان الحال بالنسبة لبيتهوفن بعد أن أصبح أصم.
والموجات الصوتية تخضع لقانون تموج الأجسام، ورغم الأبحاث العديدة في هذا الميدان، فإن العلماء لم يصلوا بعد إلى معرفة العلاقة العضوية بين الظواهر النفسية الحسية والعضوية وبين تنوع وتعدد واختلاف هذه الموجات.. كل ما نعرفه هو الأثر المباشر لهذه العلاقة، خصوصًا إذا كان الأثر نابعًا من إحساس عن صدق وعمق انفعالات مبدع الموسيقى.. فعندئذ نشعر بأن هذه الموسيقى تملك قدرة غامضة على النفاذ إلى أعضائنا وأحاسيسنا، تمتزج بها وتؤثر فيها، لدرجة أن الكائن البشرى يساهم في الميل إلى الذبذبة بنفس ايقاع الموسيقى.. وهذا اتجاه عام في عالم الحيوان.
فكيف يمكن تفسير قدرة الموسيقى على النفاذ إلى كل جزء أو عضو في أجسامنا، وكل إحساس في وجداننا؟
نحن نعرف أن ذبذبة أى جسم يمكنها التأثير على ذبذبة جسم آخر، فإذا كانت هناك آلة كمان على مسافة ٢ إلى ٤ أمتار من آلة كمان أخرى، ثم عملنا على اهتزاز الوتر «رى»، مثلًا، للكمان الأولى، فإن وتر «رى» في الكمان الثانية البعيد عنها سيهتز، من هنا يمكننا الوصول إلى معرفة قدرة الموسيقى النابعة من إحساس معبر صادق، إذ إنها تتجاوب مع اهتزازات انفعالاتنا أيضًا، وتتخلل أعضاءنا وتؤثر فينا.
ومن هنا أيضا تتضح ظاهرة العلاج بالموسيقى.
إن العلاج الموسيقى هو عبارة عن تنظيم إيقاع الحركة داخل الجسم الحى بواسطة موجات الموسيقى، سواء عن طريق إيجاد الاسترخاء المفيد لكثير من الحالات المرضية، أو عن طريق تحقيق نسبة معينة من التوافق بين التنفس وسرعة النبض ٤:١.
فالعلاج الموسيقى ينادى بالتعبيرات الصوتية الموسيقية التى تساعد على إخراج الطاقة الزائدة من الجسم دفاعًا عن هذه النفس. وبذلك يساعد على التخلص من الضيق النفسى الذى يسبب بعض الأمراض المختلفة.
لذا يمكن القول إنه لا يوجد تعارض بين الموسيقى والعلم.. فكل ما هو حق يتلاقى ولا يتعارض. فالموسيقى تشكلها الثقافة، ولكنها بدورها تفرض نفوذها على تلك الثقافة التى هى جزء منها.
لذلك أصبح للموسيقى تقديرها اللانهائى، لأنها تنتمى إلى ميدانى العلم وإبداع الفن في آن واحد. كما تؤثر، بل وتتحكم، في حالتنا النفسية والعضوية بأكملها.
أولًا: ماهية العلاج بالموسيقى What is music therapy
يعرف العلاج بالموسيقى بأنه: «العملية التى يقوم فيها المعالج الموسيقى بتزويد من يحتاج إلى هذا العلاج بمجموعة من الخبرات القائمة على الموسيقى بهدف إحداث تغييرات سلوكية ملحوظة في أدائه ثم يقوم المعالج بعمليات التقييم لهذه التغييرات.
ويعتبر العلاج بالموسيقى هو العملية التى يتم بموجبها تنظيم إيقاع الحركة داخل الجسم الحى بواسطة موجات الموسيقى وإيقاعاتها سواء عن طريق الاسترخاء المقيد لكثير من الحالات المرضية، أو عن طريق تحقيق نسبة معينة من التوافق بين التنفس وسرعة النبض، فتساعد التعبيرات الصوتية الموسيقية على إخراج الطاقة الزائدة من الجسم وهو الأمر الذى يساعده في التخلص من العديد من أوجه القصور المختلفة والمتباينة التى يعانى منها.
وهو أيضا استخدام الموسيقى كوسيط في العملية العلاجية من خلال استخدام مكونات وعناصر موسيقية معينة في برنامج علاجى يقوم في أساسه على الموسيقى، وذلك اعتمادًا على مكوناتها وأهميتها بالنسبة للإنسان، وبالشكل الذى يساعد في تحقيق الأهداف المنشودة.
ثانيًا: أهداف العلاج بالموسيقى:
أظهرت نتائج العديد من الأدبيات قدرة استخدام العلاج بالموسيقى في علاج اضطراب التوحد لدى الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب وأظهرت نتائج مثل دراسة «Goldstein، ١٩٦٤»، ودراسة «Steven & Clark، ١٩٢٩»، ودراسة «Hollander & Juhrs، ١٩٧٤»، ودراسة «Saperston، ١٩٧٣»، ودراسة «Schmidt & Edwards، ١٩٧٦»، ودراسة «Warwich، ١٩٩٥» أن الموسيقى يمكن أن تسهم في تحسين المهارات الاجتماعية، والمهارات السلوكية، والمهارات بين الشخصية، كما أظهرت نتائج الدراسات وجود تأثير للعلاج بالموسيقى في تحسين المهارات اللغوية، مثل دراسة «Edgerton، ١٩٩٤».