الموسيقى والإنسان
الموسيقى قديمة قدم الزمان
تملأ أرجاء الطبيعة إيقاعًا وأنغامًا.. كما تملأ الكيان الإنسانى بالإيقاع المنظم. فالنبضات في جسمه إيقاع، باختلاله يختل الجسم كله، وبتوقفه تتوقف الحياة فيه؛ كما أن القلب وضرباته، والتنفس بشهيقه وزفيره، والمعدة والأمعاء في انقباضاتها وانبساطاتها المنتظمة لدفع الطعام خلالها منذ ابتلاعه حتى إخراجه من الجسم، كل ذلك وغيره يسير حسب إيقاعات متنوعة، ولأنها منتظمة ومتكاملة ومتجانسة، إذا اختل شيء فيها اختل الجسم كله وأصبح مريضًا.
من هنا جاءت فكرة نظيم الإيقاع الداخلي للإنسان، عن طريق الموسيقى بإيقاعاتها المتعددة المعينة لكل حالة مرضية.
إن استخدام الموسيقى لأجل صحة وسعادة وراحة الإنسان شيء معروف على مستوى العالم. ومن المعترف به أنها ليست فقط شيئًا ترفيهيًا، ولا هي محصورة في مجال الفلسفة أو العبادة، بل استخدمت للتأثير على النواحى العقلية والعاطفية والجسمانية والحركات اللاإرادية.. حيث إنها لغة الانفعالات والعواطف، فتغير الأحاسيس والانفعالات بشتى أشكالها، المرحة أو الحزينة، الهادئة أو العنيفة، الدافعة إلى الهدوء والتأمل أو الدافعة إلى الحماس والثورة.
فالموسيقى والعلاج رفيقان، لم يفترقا خلال أحقاب تاريخ الإنسان.. فهي من أقدم الوسائل العلاجية، لذا استخدمت منذ أقدم العصور بطريقة بدائية.. ثم تطورت إلى ما وصلت إليه في عهدنا هذا، بناء على دراسات وتجارب تقبل المزيد من التطور.
فللعلاج بالموسيقى تاريخ طويل مثل أي علم من العلوم، بدأ بالخرافة ثم انتقل إلى مرحلة العلم.. وهى قصة الإنسان مع مختلف الظواهر الطبيعية، وحياته الاجتماعية والنفسية والجسمانية.
الفن والجمال في حياة الإنسان
قال ديبوس: «أهم ما يميز الإنسان هو تفرده بامتلاكه لصفات وخصائص إنسانية تميه عن سائر الخليقة. وما ينميها هي ملكاته الفنية بوجه عام والموسيقية بوجه خاص فالطبيعة البشرية هى نتيجة تفاعل بين كل ما في داخل الإنسان من تركيبات وما في خارج من بيئة.
وخبرة الإنسان الحسية هى التى تحدد مقدار تفاعله مع بيئته وتلك حقيقة نلمسها في مختلف ظواهر الحياة.. فصغار الأطفال – حتى الحيوانات – لا تنمو نموا سليما الا اذا توافرت لها ا لمؤثرات الحسية والخبرة فالإدراك الحسى للطفل هو جزء من تكوينه الجسمانى.. هذا التكوين الذى ينطوى على وظائف بيولوجية ونفسية شديدة الترابط.
إننا نعتمد كلية على حواسنا حتى في أبسط المعلومات الأولية.. فحواسنا الخمس – السمع والبصر واللمس والشم والتذوق – هى التى تقوم باستقبال المعلومات والمؤثرات وتوصيلها إلى المخ، ولكل منها تأثيرها الخاص. ومن مجموع هذه التأثيرات تنمو حاسة الإنسان الجمالية، أو بمعنى آخر، ينمو تذوقه الفنى.
ومن هنا تأتي وظيفة الموسيقى أو غيرها من الفنون في حياة الإنسان لإثراء عالمه الروحى ولفائدة حياته الصحية.
فمن الصعب تحقيق التناسق الصحى السليم بين النمو الجسمانى والروحى، إلا إذا تفتحت مداركنا الإنسانية في مناخ فنى يثرى إحساسنا الجمالى. لذلك لا يمكن فهم أو تفسير القصور العقلى أو العجز عن الإحساس بالفن والجمال بمعزل عن ظروف البيئة وما يحيط بها من مظاهر مختلفة. ولا نتجاهل رتابة المؤثرات الفنية التي لا يمكن أن تؤدى إلى النمو الذهني المنشود.
واذا كان الإبداع المالى والإحساس به هما من أهم الخواص المميزة للإنسان، فمن الطبيعى أن تكون هناك علاقة ما بين الافتقار إلى الحس الجمالى وبين ظهور حالات من المرض أو التخلف العقلي.. فالطفل الذى يربى في بيئة تفتقر إلى الأثر الفنى والأحاسيس الطبيعية يكون نموه الذهنى متناسبًا مع مؤثراته الحسية، ويؤدى ذلك إلى قصور دائم في نمو ذكائه. ولا يقتصر الأمر على السلوك فقط، بل تظهر أيضًا ادلة تشريحية وكيميائية.
فعند عزل بعض حيوانات التجارب عن المؤثرات الحسية، وجد "وسكرانتز" دمارًا في الابصار، ووجد "ليبرمان" تغيرات في حمض الريبونيوكلييك بالجسم، كما بينت التجارب أن استمرار حرمان الجسم من المؤثرات يؤدى إلى تغييرات في رسم المخ الكهربائى.
كذلك لا يقتصر ضرر الحرمان من المؤثرات الحسية على الصغار فقط، بل يؤدي بالإنسان البالغ إلى سلوك غير طبيعى، فيفقد إحساسه بذاته، وقد تحدث هلوسات.
كل هذه التجارب والحقائق تبين أن كمية ملائمة من المؤثرات الحسية، مع شيء من التجديد، ضرورية جدا للحالة الصحية للجسم.. فهناك جوع حسى للمناظر والأصوات والايقاعات والأشكال والتركيبات، خصوصًا للأطفال، وإشباعها ضروري للنمو والذكاء. كما أن الدوافع للرؤية والسمع واللمس والذوق والشم طبيعية وملحة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا جماليات.
ويمكن القول بصفة عامة إن أهم خاصيتين بارزتين في تطور الإنسان ونمو تفاعله مع البيئة هما تأثير المجتمع الذي يعيش فيه وتطور وتعقيد مخه.. إنهما عاملان لا يمكن الفصل بينهما، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به.
والواقع أن خبرة الإنسان الحسية السمعية هى التي تحدد مقدار تفاعله مع بيئته. فالإدراك الحسي للطفل هو جزء من تكوينه الجسمانى، هذا التكوين الذى ينطوى على وظائف بيولوجية ونفسية شديدة الترابط والامتزاج.
وبالرغم من أن كل حواسنا تعطينا نوعًا من الإحساس؛ إلا أننا لا نستطيع مثلًا أن نقول أن المؤثرات الصوتية اقل واقعية من مؤثرات حسية اخري. إن حواسنا تزودنا بالمادة الأساسية لما سيكون عليه ذكاؤنا، وبنفس التأكيد، لما ستكون عليه حاستنا الجمالية.
"كلما زاد النمو الحسى للشخص زاد العالم الخارجى بالنسبة له، هذه هي بالضبط وظيفة الفنون بصفة عامة والموسيقى بصفة خاصة، في حياة الإنسان لإثراء عالمه الروحى ومن هنا، بالتحديد، ينبع تأثيرها العلاجى.
وقد قال الدكتور" ريتشارد لينين" رئيس الجمعية الدولية للطب الفنى "أن هذا الاتجاه اصبح بمثابة حركة اجتماعية جديدة في ميدان الطب، وأضاف أن الرسام " هنرى ماتيس" كان على حق حينما كان يحمل لوحاته معه إلى حجرة أصدقائه المرضى في فرنسا، حيث كان على اقتناع بأن الألوان قادرة على تحسين حالتهم الصحية كما أن الأطباء في بعض المستشفيات الأمريكية كانوا يشجعون مرضى الايدز على استخدام الأقلام أو الفرشاة في التعبير عن مشاعرهم، بينما في مستشفى آخر بولاية فلوريدا، ينضم المرضى لمائتين في الفنانين في صالة للرسم والنحت والموسيقى والرقص، وذلك للاستفادة بالفنون في العملية العلاجية.