الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أزمة علم الطبيعة «1 – 2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تكمن أزمة علم الطبيعة، بل وأزمة كل العلوم الحديثة وحتى الفلسفة، حسب هوسرل، في نسيان عالَـم الحياة اليومية كأفق لكل ممارساتنا. هذا النسيان يزداد تعمقًا مع اكتساح الصياغة الرمزية والصورية لكل حقول المعرفة العلمية. فمع طغيان الطابع الرمزى والصورى للمعرفة العلمية تختفي المعانى والدلالات الأصلية للأشياء وراء رموز فارغة يمكن أن نشتغل عليها وأن نجرى عليها عمليات متعددة دون التساؤل عن مضمونها. هكذا يتحول التفكير العلمى إلى نوع من الحساب يتم إجراؤه بكيفية صورية على رموز وقضايا فارغة من أى مضمون يذكر بعلاقتها بالعالَـم اليومى. إن التفكير العلمى يصبح شبيهًا بالنشاط التقني الحرفى الذي يقوم على التمرن والعادة، لا على التأمل والابتكار. يتبين إذن، مع هوسرل، أن العلاقة بين العلم والتقنية الحديثين هى أعمق مما يُعْـتَقد عادةً، فالتقنية ليست مجرد تطبيق للعلم، بل إن الروح التقنية تسود العلم ذاته كمعرفة نظرية. إن العلوم الحديثة هى في عمقها علوم تقنية.
مع طغيان الطابع التقني المنهجي في العلم الحديث يبلغ نسيان عالَـم التجربة اليومية حده الأقصى. وهكذا يسود الاعتقاد بأن العالَـم كما تتمثله القوانين والنظريات العلمية، والذي ليس في الأصل سوى نتاج لإجراءات منهجية تقنية، هو العالَـم الحقيقى، وبأنه موجود باستقلال عن كل وعي. أما عالَـم تجربتنا اليومية فيُنْـظَر إليه كمجرد تعبير ذاتر تقريبى عن العالَـم الحقيقى، ولذلك فهو لا يستحق أن يكون موضوعًا للدراسة العلمية. يرى هوسرل خطورة هذه النزعة الموضوعية التي تسود العلم الحديث في أنها تقود إلى انفصال العلم عن عالم التجربة اليومية.
إن تخلى العلم عن آفاق عالَـم الحياة البشرية يؤدى إلى انفلات البحث العلمى من مسئولية الإنسان، فالبحث العلمى يتحول إلى عملية لا نهائية تتجسد في إجراءات منهجية تقنية للسيطرة على العالَـم الرياضى اللانهائى ومختلف قطاعاته. هكذا يصبح دور العالِم مقتصرًا على متابعة قطاع أو مجال من العالَـم، دون أن يكون مضطرًا للتساؤل عن علاقة البحث الذى يمارسه بآفاق الحياة اليومية وعن غاياته. إن آفاق العلماء والباحثين تضيق شيئًا فشيئًا، بحيث يبدو في نهاية الأمر كما لو أنهم أصبحوا مجرد أجزاء أو قطع داخل آلة كبرى، تعطى نتائج مفيدة، ولكن دون أن يعرفوا كيف تشتغل هذه الآلة، وما هى علاقتها الأصلية بعالَـم الإنسان.
إن البحث العلمى يتجه إلى أن يتحول إلى «شغل» مقسم بكيفية دقيقة إلى مهام جزئية يقوم كل عالِم بإحداها ويكون مسئولًا عنها هى فقط. يسير هذا الشغل بكيفية أتوماتيكية مستقلة، وذلك دون أن يشعر العلماء بأية ضرورة حية للتساؤل عن سياق المعنى الشامل، أو عن الأفق الذى يندرج فيه كل مشروع بحث جزئي. معنى ذلك أن المسئولية الشاملة عن سير البحث تخرج من يد العلماء والعلم عمومًا.
وقد كان من شأن الحرب العالمية الثانية أن أثرت تأثيرًا جذريًا في وجهة نظر العلماء. وعلى الرغم من المهارات التقنية التى كان يتمتع بها العلماء، والتكنولوجيون في أمريكا، فإنهم كانوا من الجدة والحداثة بحيث إنهم لم يفكروا في عملهم بلغة القوة الحربية والاجتماعية، فظلت تطبيقاتهم الاجتماعية لمهاراتهم العلمية تدخل ضمن أعمال الهواة، ولكن «هيروشيما» قد عملت – إلى حد كبير – على تغيير هذا الوضع.
وكثيرًا ما يقال عن «هيروشيما» إنها كانت بمثابة المعادل للتفاحة في قصة «جنة عدن»: فقد وضع أكل هذه التفاحة حدًا لعهد البراءة، ومنح الإنسان معرفة بالخير والشر. وليس من شك في أن «هيروشيما» قد أعطت الكثير من العلماء إحساسًا جديدًا بالمسئولية.
وهنا تثار مشكلة «مسئولية العالِم» في العصر الحاضر. ذلك لأن العالِم كان، تقليديًا، يقوم بالبحث النظري أو التطبيقي وليس في ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدأه.
ولكن الوعى المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التى يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية في هذا العصر، جعل من الضروري أن تضاف إلى أعباء العالِم مهمة أخرى، هى أن «يفكر» في تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلًا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.
ولقد تفاوتت الآراء حول مشكلة «مسئولية العالِم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالِم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود. وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد في عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره. ولكل من الفريقين، وكذلك لمن يقفون موقفًا وسطًا بينهما، حججه التي يدعم بها موقفه. ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالِم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالِمًا كبيرًا يخرج من إطار عمله العلمى الخالص لكى ينبه الرأي العام إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجى. ولكن المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة.