دخلت مفاوضات سد النهضة عام 2021، لتبدأ العام السابع بعد التعهدات المشتركة في اتفاق المبادئ الموقع في مارس 2015، والمؤشرات حتى اللحظة تؤكد أن الأمر كله "محلك سر" إن لم يكن "للخلف در"، ولا يوجد ما يؤشر على أي تقدم في ملف من أهم الملفات التي تسير فيه المفاوضات في اتجاه، وتسير فيه أعمال البناء في السد في اتجاه عكسي تماما، في حالة من التجاهل مع سبق الإصرار والترصد من جانب إثيوبيا.
أحدث ما شهدته المفاوضات هو إعلان مصر اخفاق جولة الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان وإثيوبيا برئاسة وزيرة خارجية جنوب أفريقيا في تحقيق أي تقدم بسبب خلافات حول كيفية استئناف المفاوضات والجوانب الإجرائية ذات الصلة بإدارة العملية التفاوضية.
والجديد أيضا هو تمسك السودان بضرورة تكليف الخبراء المُعينين من مفوضية الاتحاد الأفريقي بطرح حلول للقضايا الخلافية وبلورة اتفاق سد النهضة، وهو الطرح الذي تحفظت عليه كل من مصر وإثيوبيا وذلك تأكيدًا على ملكية الدول الثلاث للعملية التفاوضية وللحفاظ على حقها في صياغة نصوص وأحكام اتفاق ملء وتشغيل السد، نظرا لغياب الصفة التخصصية عن خبراء الاتحاد الأفريقي خصوصا في المجالات الفنية والهندسية ذات الصلة بإدارة الموارد المائية وتشغيل السدود.
في ضوء هذا الوضع المترهل في الاجتماعات، قد يصبح اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، في لاهاي، أحد أهم الأمور المطروحة، ولكن بشرط التوافق من الدول الثلاث صاحبة المصلحة "مصر – السودان – إثيوبيا" لأن التوافق هو شرط رئيسي في حال اللجوء للتحكيم الدولي، إلا أن البعض يرى إمكانية اللجوء حاليا وفقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يتيج للدول استخدام هذا الحق، إذا ما تعرض أمنها واستقرارها لأية مخاطر، وهو الواقع الحالي.
قد تكون خيارات أخرى في هذا الملف، بعضها يتعلق بحماية مصر لحقوقها بالشكل الذي تراه مناسبًا، وفي اللحظة المناسبة، وإن كان يرى الساسة صعوبة ذلك، خصوصا مع تطور الأعمال في السد، والذي تجاوزت نسبة الإنجاز فيه حاليا الـ70%.
بينما هناك خيارات أخرى أصبح لا معني لها منها استمرار المفاوضات تحت وساطة الاتحاد الأفريقي، وتحت رئاسة جمهورية جنوب أفريقيا، وستتسلمها جمهورية الكونغو الديمقراطية العام الجاري 2021، وهو خيار صعب من وجهة نظر المراقبين خصوصا في ظل تجاهل أديس أبابا لكل المطالب والملاحظات من مصر والسودان، واستمرارها في مراحل استكمال بناء السد، وما يتعلق بمرحلة بناء ما يتعلق بعملية الملء الثانية.
ويوجد خيار أخر صعب يراه الكثيرون أنه خطير، وهو يتعلق باللجوء لمجلس الأمن ليكون طرفا أصيلا في المفاوضات، إلا أن ذلك يعني بالتالي ابعاد الاتحاد الأفريقي عن الملف كليا.
في ظل هذا الوضع المتأزم والذي تزداد حدته مع حالة التشدد التي تتبعها إثيوبيا بشكل مستمر، فكلما تم التوجه نحو خطوة إيجابية للأمام، تختلق أديس أبابا الذرائع والمبررات لتجميد أو قل شلل المفاوضات، بينما هي على الأرض تواصل الأعمال في بناء السد، في خطوات لمزيد من فرض الأمر الواقع، وهو ما يتطلب موقفا جديدا من مصر والسودان باعتبارهما الأكثر تضررا من تلك الأزمة وعملية بناء سد يحرم الملايين من حق الحياة.
وتصبح الخيارات القوية هي الأساس، بعيدًا عن أن كل المخاوف، أو وجود التزامات نص عليها اتفاق المبادئ، الذي تستغله أديس أبابا من طرف واحد، ولا مفر أمام القاهرة والخرطوم سوى وضع الاستعدادات القانونية لمواجهة التغوّل الإثيوبي، وكسر حالة الجمود التي تمر بها المفاوضات على مدى سنوات طويلة، فاق ما هو متوقع.
وأعتقد أن اتخاذ مصر والسودان خطوات قوية في مواجهة هذا الموقف الإثيوبي الذي يتم بالتسويف الدائم، والتي وصلت إلى ما يمكن وصفه بـ"التعسف"، حيال قضية مصيرية في حياة شعبي مصر والسودان، أمر تقتضيه الضرورة في هذه المرحلة الحرجة، في ظل السباق مع الوقت، وكفى سياسة "النوايا الحسنة"، خصوصا أن دولتي المصب تمتلكان من أوراق الضغط التي تمكنهما من حماية حق تاريخي ووطني، ومن تلك الأوراق، عدم ابداء أي مرونة من جانب "أديس أبابا" مع الإتفاق الذي تم برعاية وزارة الخزانة الأمريكية ممثلة لحكومة واشنطن، وبدعم من البنك الدولي، بل جاء موقفا غير لائق من إثيوبيا وهي التغيب بحالة تعمّد عن اجتماع توقيع اتفاق واشنطن بالأحرف الأولى، فيما وقعته مصر والسودان.
فهل يصلح التحرك المطلوب ما أفسدته سنوات من تفاوض "الحرث في النهر".