للفهم أولا نحن بحاجة للتفريق بين قوة أمريكا وغطرستها بين ديمقراطيتها ونزوعها الاستعمارى، وبين إضافتها الأصيلة للحضارة الإنسانية وسجلها الإجرامى فى الوقت ذاته ضد الإنسانية، وهو سجل مخجل ومن المهم أيضا الإقرار بحقيقة أن الانسحاب بعد فترة من الحكم رضاءً أو انصياعًا لقرارات القضاء أو الشعب، أمر دستورى طبيعى فى بلاد تحترم الدستور والقانون ولشعوبها وزن فوق الرؤساء الذين يعملون فى خدمتهم، وهو مايسمى بالخروج الآمن، ومن هذا المنطق كان ترامب يدرك جيدا أن ما حرض عليه من عنف لن يغير من الأمور شيئا، ولكنه من حيث كفره بالعملية الديمقراطية ومنهج البلطجى الساكن بداخله أراد أن ينتقم من النظام الأمريكى الذى لفظه، وأن يوجه بصقة له قبل أن يغادر، ويرسل لهم رسالة أنه ما زال يملك مفاتيح اليمين المتطرف، ويستطيع أن يحركه فى أى وقت لإشعال الموقف، وذلك كى يتجنب محاكمات قد يتعرض لها بعد فقده المنصب.
وبالطبع كما جاء بالمادة ٢٥ من الدستور الأمريكى فإن محاسبة هذا المهووس وعزله قبل أسبوع من نهاية ولايته تبدأ من عند نائبه بعد أن تخلى عنه وانحاز إلى الدولة والدستور، ووضع أمريكا فى المقام الأول وديمقراطيتها فوق كل اعتبار، وكان لمشهد اقتحام الحشود لمبنى الكابيتول أثناء جلسة إقرار فوز بايدن بالانتخابات وقع الصاعقة على الأمريكيين بشكل عام وموظفى إدارة ترامب بشكل خاص، مما دفع العديد منهم على تقديم استقالاتهم احتجاجًا. بل وراح نائبه بيتس ينحاز للمؤسسة ويصر على استكمال التصديق على نتائج الانتخابات بعد ثلاث ساعات من الهجوم الهمجي، وأصر النواب الجمهوريون على الانحياز للدولة والقيم الديمقراطية لأن الوطن أبقى من الحزب والرئيس، وهكذا خلعت الديمقراطية هذا الأحمق بأقل قدر ممكن من الخسائر، بل إن جميع مؤشرات البورصات ارتفعت لأن أمة قادرة على تصحيح أخطائها تصبح الملاذ الآمن للاستثمار، ويبقى الدرس الأهم فيما حدث أن الديمقراطيات المستقرة بمؤسسات مستقلة بينها توازن فى السلطات تسحق حكم الفرد، وتحمى أى خروج عليها سواء من رئيس أهوج يملك أنصارا أكثر جنونا أو من جماعة أو حزب أو من أى تجمع مهما بلغت حشود أنصاره، ثم رأينا تفسيرات عملية للحلم الأمريكى على الأرض متمثلا فى احترام القضاء، وعظمة وشموخ ومهابة المحكمة العليا واستقلالها، وحتمية أن تعمل مؤسسات القضاء باستقلاليه تامة، وبمنتهى الندية والقوة أمام السلطة التنفيذية والسلطات الأخرى، وحتمية أن تكون قراراتها لصالح الحق والأمة، لا الرئيس وحاشيته، وأن تكون قراراتها المصيرية انعكاسًا لحقيقة أن الأمة فوق الدولة، والدولة فوق الحاكم والحكومة. وانتصرت حرية الصحافة، وجلال مهمتها، وأهمية دورها، وضرورة احترامها من الرئيس قبل غيره، وأن ينعكس ذلك فى ممارسات جميع المؤسسات والسلطات، باعتبارها مكونًا رئيسًا من مكونات عقل ووعى الأمة. واتضحت وضعية الجيش وأجهزة ومؤسسات الأمن، وكيف يتعين أن تظل فى مقامها الرفيع، بعيدًا عن معترك السياسة وتقلباتها، متعففة عن الاقتصاد وشهواته، ملتزمة بقيمها وشرفها ومهامها، حامية للدستور والقيم والنظام العام ومؤسساته، لا خادمة للحاكم ونزقه وترهاته وشبقه للسلطة والتسلط، والعسف والظلم والجور على الحق.والموضوع ببساطه شديدة هو أن شخصًا غير سياسى ساذج خارج المنظومة العتيدة وخارج دائرة الدولة العميقة أراد دخولها بالعافية وخدمة حظه، ونجح بالصدفة فى الانتخابات الرئاسية. وبغروره وجهله تصور، إنه قادر على إدارة أمريكا كما يدير شركة مقاولات كأى مطور عقارى شخص.يعانى من نرجسية رهيبة، ولا يستمع لأحد من العقلاء، ولا حتى العلماء أو الخبراء ويظن ( ويردد دائمًا ) أنه أكثر واحد فاهم كل حاجة ! والخلاصة أن ترامپ ظاهرة انتهت لكن " الترامپية " ظاهره مهمة وتعدادها نصف الناخبين وسط الأمريكان (قليلو التعليم والثقافة)، ولذلك فلم ولن تنتهي، وستظل فترة ليست قليلة تؤرق كل رئيس جديد ! ولكن تلك الأمة التى ينحاز فيها البشر للحق والديمقراطية لاخوف عليها.