كلما مررت إلى جانب أسوار معهد الفنون المسرحية قادنى الحنين إلى ذكريات محفورة بداخل أروقة هذا المكان العتيق الذى ندين له بفضل التكوين الثقافى والعلمى، فبين جنباته كنا نصارع الأفكار ونحن نطوف في عوالم شكسبير وسوفوكليس وجوته وبيترفايس وسارتر،كنا نقرأ ونناقش أساتذتنا ولا نكتفى بساعات الدراسة بل كنا نصر على البقاء داخل المعهد لنشاهد تدريبات الزملاء في قسم التمثيل، ثم نصطحبهم إلى أحد المسارح لنشاهد عرضًا جديدا يكون محور حديثنا في اليوم التالى، وكان الأساتذة يأتون إلينا بصانعى تلك الأعمال، أذكر يوم استضفنا الراحل لينين الرملى في مدرج مندور وناقشناه وأنصتنا إليه، ويوم جاءنا ألفريد فرج ويوم أن استقدم لنا أستاذنا فوزى فهمى الدكتور لويس عوض،ودعونى أتوقف قليلًا عند الدكتور فوزى فهمى ذلك المثقف الكبير الذى وهب حياته للإدارة الأكاديمية وللتدريس فأهدى الحركة الفنية عشرات من المبدعين، مازالت أذكره وهو يضع أيدينا على حرفية هنريك إبسن وبوشكين ويعلمنا كيف نبتكر الشخصية الدرامية ونصنع لها واقعًا وقانونًا، كان رجلا حازما في وقت كنا نحتاج فيه لسطوة الأب فتربينا على احترام الكبير وتوقيره، ما زلت أذكر أيضًا الدكتور جلال حافظ الذى وهب نفسه لتعليم الآخرين فشربنا من كأسه فلسفة أرسطو ونظريات الدراما، ولاشك أن جيلى كان محظوظًا حين استقدم لنا فوزى فهمى عمالقة الدراما والنقد لكى ننهل من علمهم وثقافتهم،مثل عبد العزيز حمودة وعبدالمعطى شعراوى وغالى شكرى ومحمد عنانى ونهاد صليحة وهدى وصفى وكيف كنا نتسابق نحو غرفة قسم الدراما لنجالس الدكتور عصام عبدالعزيز والراحل محسن مصيلحى الذى ترك فينا جرحًا غائرًا برحيله في حادث مسرح بنى سويف، وكان معهم الدكتور حمدى الجابرى وأسامة أبوطالب وأحمد سخسوخ حيث كنا نستمع إليهم ونعرض أفكارنا وأبحاثنا، كنا لا ننقطع عن القراءة ومشاهدة المسرح والسينما، وإذا أردنا الراحة ذهبنا إلى الراحل عبدالحميد توفيق زكى في غرفة الموسيقى لنستمع إلى عزفه الرائع على البيانو وإلى حكاياته عن زمن الفن الجميل وذكرياته مع أم كلثوم وعبد الحليم، هذه الحكايات كانت تشعل لهيب الأمل بداخلنا فنعدو بين الطرقات لنلحق بمحاضرات نبيل الألفى وسعد أردش وكرم مطاوع وسعيد خطاب والعلامة إبراهيم حمادة والعالم الفنان حسين عبدالقادر، كنا نبتغى ناصية الشمس مكانًا فجعلنا المعهد دارنا وافترشنا مسرحه وقاعاته، وابتدع لنا الدكتور فوزى فهمى مهرجانًا يقام في ذكرى مؤسس المعهد زكى طليمات فكنا نتسابق للمشاركة تأليفًا وإخراجًا أو نساعد الزملاء في قسمى التمثيل والديكور، والحقيقة أن هذا الصرح العلمى مر بأربع مراحل مهمة، الأولى هي مرحلة التأسيس التي قادها مؤسس المعهد زكى طليمات، ذلك الرجل الذى سافر إلى فرنسا فأدرك أن الفنون يجب أن يتم تعليمها في معاهد متخصصة كما يحدث في أوروبا، فعاد بحلم إنشاء المعهد لكنه اصطدم بمجتمع يرفض الفن ويعتبره كفرا وخروجا عن التقاليد، ولذا فقد أغلق أول معهد للفن بعد سنة واحدة من افتتاحه في 1930، وذلك باسم الحفاظ على التقاليد، ولكن نتيجة ضغط مجموعة من المثقفين آنذاك، كان بينهم طه حسين وأحمد لطفى السيد، تمت إعادة افتتاح معهد الفنون المسرحية في 44 وتخرجت أول دفعة في 48 والتي كانت تضم مجموعة من الفنانين منهم حمدى غيث وعمر الحريرى ونعيمة وصفى، أما المرحلة الثانية في عمر هذا المعهد فهى مرحلة العلم وتعود إلى عهد الوزير ثروت عكاشة حين أنشأ أكاديمية الفنون لتكون بمثابة جامعة تضم معاهد عليا في مختلف أنواع الفنون وأدخل الدراسة العلمية مستقدما خبراء من مختلف دول العالم وأساتذة من مختلف الجامعات، وأما المرحلة الثالثة فهى مرحلة الاعتراف، وترجع إلى فوزى فهمى الذى جعل الشهادة التي يحصل عليها خريجو الأكاديمية معادلة للشهادات الجامعية في مختلف دول العالم ومؤهلة للحصول على درجتى الماجستير والدكتوراة، وأما المرحلة الرابعة فهى الطفرة الإنشائية والتي تشهدها الأكاديمية الآن في عهد أشرف زكى، حيث التوسع في إنشاء قاعات ومسارح واستديوهات وتجهيزها بأحدث التقنيات الفنية حتى لايشعر الطالب بغربة بين الأجهزة التي يستخدمها أثناء الدراسة وتلك التي يجدها عند تخرجه، وفى الأسبوع الماضى كانت لى زيارة بصحبة الدكتور أشرف زكى الذى فاجأنى بكم هائل من الإنشاءات وبفكر جديد تمثل في إنشاء مدرسة صناعية لتعليم المهن الفنية التي كادت تختفى كمحركى العرائس وعمال التقنيات المسرحية، ورأيت كيف تحولت الأكاديمية إلى جامعة كبرى بفضل مايبذله أشرف زكى من مجهودات غير عادية.
آراء حرة
المعهد العالي للفنون المسرحية
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق