لا تخلو الأوساط الأدبية والفكرية من المعارك والمناكفات وأحيانا بعض الغيرة الفنية التي قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى وقوع الإحن والقطيعة بين كاتب وآخر وربما آخرين. لكن هذه المعارك أو الغيرة لم تكن يوما سببا في نزع إنسانية الكاتب أو إخماد شعلة ضميره وشعوره بالمسئولية تجاه أقرانه من المفكرين والكتاب بل تجده رغما عن خلافه مع كاتب آخر إلا أنه لا يتردد لحظة في إحقاق حقه في أمر ما أو الشهادة له بالنبوغ والموهبة.
وهنا يحضرني ما فعله عميد الأدب العربي حينما توفي زميله الكاتب إبراهيم المازني، والذي كان قد استقال من وظيفته الحكومية ليتفرغ للكتابة والأدب. ولم يكن له مورد رزق سوى قلمه، وبوفاته فقدت أسرته عائلها إذ لم يكن له معاش يرثه ورثته.
فبذل الدكتور طه حسين جهودا جبارة حتى يقنع مجلس الوزراء، وقد كان حينها وزيرا للمعارف بأن يُخصص معاشا لورثة المازني، وقد بلغ حينها ثلاثين جنيها. وهنا أترك المجال لعميد الأدب العربي ليروي ما حدث، وهو ما كتبه الدكتور محمد الدسوقي في كتابه الماتع (طه حسين يتحدث عن أعلام عصره):
يقول طه حسين عن المازني: لقد كان المازني أديبا مرحا يعشق الفكاهة والسخرية، وكان له أسلوب خاص في الكتابة يجنح فيه إلى اليسر، وقد يظن بعض قرائه أنه يستعمل ألفاظا عامية، ولكن هذا الظن في غير موضعه، لأن ما يظنه عاميا هو فصيح كل الفصاحة، غير أن جريانه على الأسن وشيوعه بين الناس قد يوحي بأنه عامي، وكان المازني يمقت الإغراب وينأى عن التعقيد، فهو يطلق نفسه على سجيتها لا يتكلف أبدا، وأذكر أنه عمل معي في جريدة الاتحاد وكان مثالا للجد والدأب، ولكن السخرية لم تكن تفارقه في كل تصرفاته.
والمازني لم يرض بالعمل الحكومي وتمرد على شكلياته وآثر العمل الحر الطليق فأقبل على الصحافة والكتابة وقول الشعر والترجمة، وأثره في الأدب المعاصر كبير بلا جدال، ويكفي أنه قام بدور لا بأس به في مجال الدراسة النقدية في العشرينات مع زميليه المرحومين عباس العقاد وعبدالرحمن شكري..
ثم قال العميد: لقد كنت أحب المازني وأقدره كل التقدير، ولما مات لم يكن له معاش، لأنه ليس موظفا حكوميا، ولكنني وأنا وزير للمعارف طلبت من مجلس الوزراء – وكانت هذه أول مرة في تاريخ المجلس- أن يقرر لورثة الأستاذ المازني معاشا واستطعت أن أحمل المجلس على أن يكون هذا المعاش ثلاثين جنيها في الشهر، ولو استطعت أن يكون أكثر من ذلك لفعلت، ولكن المازني لم يكن موظفا، وتقرير معاش لإنسان غير موظف فيه عُسر، ولولا ما بذلته من جهد لاتجه المجلس إلى عدم تقرير معاش لورثة المازني يرحمه الله.
انتهي كلام عميد الأدب العربي عند هذا الحد لكن القيمة أو الدرس الذي استخلصناه من موقفه مع أبناء المازني لا يقف عند حد إذ على الكاتب أن يكون نبيلا عندما يكتب ونبيلا فيما يتخذ من مواقف ونبيلا عندما يتصرف في الحياة.