لم ألتق الفنان محمد صبحي كثيرا وكانت لقاءاتي به عابرة من خلال مهرجانات فنية كان أهمها لقائي به في عام ٢٠١٠ - على ما أتذكر- في مؤتمر صحفي كان على هامش مهرجان فني عربى أثناء عملي في إحدى الصحف الخليجية في ذلك الوقت.
جري اللقاء ولم تكن أصداء مسلسل "فارس بلا جواد " قد فارقت خيال من متابعيه وانا منهم،فلم يكن المسلسل سوي محطة جديدة في مسيرة الفنان الفنية والوطنية،التي كشفت عن احدي حلقات الصراع العربي الصهيوني،التي ما زلت أعتبرها – وملايين غيري- أهم قضية تواجه العرب في عصرهم الحالي.
اللقاء الذي كان مطولا وتناول عددا كبيرا من القضايا الفنية ذات الطابع الوطني والعروبي، كان كاشفا عن مدي ثقافة الرجل فضلا عن دماثة خلقه وأدبه الجم،بجانب عزة نفس لم تكن خافية،كانت وما زالت تميزه.
محمد صبحي الذي أقام حفلا منذ أيام بمناسبة مرور ٥٠ عاما على عطائه الفني والثقافي في مجال الفن المصري والعربي، آثر أن يشاركه الاحتفال العشرات من رموز الحياة الثقافية والصحفية والإعلامية التي شاركته مسيرته أو شهدت معه خطواته القوية نحو عالمه السياسي والاجتماعي النموذج الذي انتج لنا مجموعة حلقات "يوميات ونيس" فضلا عن أعماله المسرحية التي أرست قيما أصيلة كادت أن تغيب عن مجتمعنا.
قلة هم الفنانون الذين يتسمون بعمق الثقافة والرؤية السياسية،بجانب موهبتهم الفنية السخية، التي حباهم بها الله فاستقبلوها استقبالا حسنا،ورعوا منحة ربهم بمزيد من الجد والاجتهاد،الذي ظهر واضحا في أعمالهم الفنية المنوعة، خاصة في المسلسلات التليفزيونية والأعمال المسرحية الهادفة.
محمد صبحي يعد من آخر الاجيال القابضة على جمر الفن الاصيل الهادف،ومن آخر جيل العمالقة،بعد أن غادرتنا أسماء أسهمت في اثراء حياتنا الفنية،أبرزهم أحمد زكي ونور الشريف ومحمود عبد العزيز وغيرهم في السنوات الاخيرة.
وبالامس القريب عرفت ان شقيقه الفنان المهذب مجدي صبحي قد أصيب بوباء العصر "الكورونا"، كما أصيب أيضا عدد كبير من الفنانين والفنانات،الذين شاركوا مؤخرا في بعض الفعاليات الفنية،وربما كانت تلك المشاركات سببا في نشر العدوي فيما بينهم.
لا شك أن الاعمار بيد الله لكننا نملك ثروة من عناصر القوة الناعمة المصرية،التي تجاوزت حدود وطنها إلى محيطها العربي بكفاءة وقدرة، بحاجة إلى الحفاظ عليهم،خاصة هؤلاء الذين شاركوا بأعمالهم في وجه موجة التزييف الثقافي والتجريف الفكري التي أصابت مجتمعاتنا في العقود الاخيرة.
الكتابة عن فنان بقيمة وقامة محمد صبحي،هي فرض عين واجب على كل صاحب قلم،لأن ما قدمه صبحي كان مميزا وحاضرا في أذهان أجيال متعاقبة،تعلمت على يديه ولم يبخل عليهم بما أوتي من ثقافة وفكر ووعي.
صبحي الذي عرضت عليه وزارة الثقافة مرتين واعتذر،أدرك بوعيه أن الفنان لا يجب أن تقيده الوظيفة الرسمية، حتى ولو كانت بدرجة وزير، وفضّل أن يمارس فنه بحرية بعيدا عن رسميات الوزارة،خاصة أن التجربة لم تكن ناجحة عندما خاضها عباقرة،سابقون من أمثال الشعراوي في الأوقاف،كما لم يفلح نجم الكرة طاهر أبوزيد في وزارة الشباب والرياضة، رغم عطاء الجميع في مجالاتهم الفكرية والثقافية والرياضية،التي يشهد لها الجميع.
عطاء صبحي الحقيقي يجب أن يكون في مجال الفن،وألا يتوقف عند مسيرة النصف قرن التي مضت،وأن يكمل مشوار العطاء ما دام نبض القلب يضخ الدماء في شرايين الجسد، فما زال في امكانه ان يحرك ماء البحيرة الآسن، الذي تشوّه بأنصاف الموهوبين وأنصاف المثقفين،الذين فقدوا حسهم الوطني وغيرتهم الفنية.