نودِّع عامًا ونستقبل آخر سيكون بداية عقد جديد هو العقد الثاني في القرن الواحد والعشرين الذي مازال يتعثر في تداعيات سلفه، ذلك العقد الماضي بكل العواصف التي شهدتها منطقتنا العربية في بدايته من انهيار دول وسقوط أنظمة وحروب أهلية وتصدعات اجتماعية وأزمات سياسية واقتصادية؛ ثم العواصف التي شهدها العالم أجمع في نهاية العقد مع هجوم جائحة كورونا، وما تسببت فيه من أزمات على كل نوع ولون. وقد كان العام 2020 الذي أطلق عليه البعض "تعويذة الرقمين المكررين" الأكثر صعوبة وقسوة على البشرية، حيث كان عاما عليلا، وعانى من "فقر الدم"، وفقر المباهج، وظلمة القلوب، وأنيميا المشاعر بسبب الوباء الذي جلب معه خسائر ثقيلة ومروعة في الأرواح تقترب من مليوني حالة وفاة وأكثر من ثمانين مليون إصابة بالفيروس اللعين (كوفيد-19) ؛ كما جلب أيضًا أحزانا لفقد الأهل والأحباب، ومخلفات المرض، إلى جانب الإحباطات نتيجة أن الكثيرين منا كانوا عالقين في المنازل تأكلهم الحيرة ويقتلهم الملل، ناهيك عن تداعيات التوقف عن الأنشطة وفقدان فرص العمل وسبل العيش، والأهم والأكثر قسوة توقف فرص الحياة الكريمة والنمو والترقي. والإنسان بطبعه قلب نابض بالأمل يدفعه نحو الأفضل وكما يقول الشاعر "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"!
كانت أجواء العام الذي يجمع أشلاءه للرحيل أشبه بأجواء الحرب العالمية الثانية كما يرويها من عايشوها ويعتبرونها المأساة الأكبر في تاريخ البشرية. الرحلة كانت مليئة بالمشقة لدرجة أن الكلمات الوحيدة المعبرة عن هذه الحالة الغربية هي البقاء على قيد الحياة، الصبر، والعزيمة. وأكاد أجزم أن كل شخص وبدون استثناء قد واجه هذا العام تحديًا أو صعوبة متشابهة أو مختلفة وشعر الكثيرون منهم بالارتباك والتبعثر لدرجة أنهم لا يرون مخرجًا. وكان الفيروس اللعين يرتع ويراوغ ويتلاعب بأذهاننا وأجسادنا، ولا يترك فرصا حقيقية لتوقع آثاره أو السيطرة بجدية على تبعاته. إنه لم يترك كبيرا ولا صغيرا بل نشر خرابه على أهلنا وأصدقائنا وأحبابنا وفقدنا منهم أشخاصا أعزاء كما أصيب البعض منا بالفيروس ومازالوا يكافحون آثاره على المدى الطويل والمتمثلة في ضررعلى الرئة وجلطات متفرقة وآلام في العضلات والأعصاب. كما عانى البعض تبعات من نوع آخر تمثلت في ابتعادهم عن أهلهم أو خسارة وظائفهم.
وحتى بعد بدء توزيع اللقاحات، مازال العالم مستنفرا يستجمع قواه وإمكانياته لمواجهة التحديات. بالطبع، ابتهجنا جميعا بالخبر السار بأن لقاحات كورونا ستكون متاحة في غضون وقت قصير، لكن أن تتوفر اللقاحات في المصانع أمر وأن يتم إيصال تلك اللقاحات إلى كل من يحتاج إليها أمر آخر تماما. ولعل غياب البنية التحتية اللازمة للتوزيع والنقص في سلسلة التبريد خاصة في البلدان الفقيرة والنامية يمثل تحديا جديدا يتطلب تدابير وتمويلات بالمليارات!
ولن تغطي المساعدات المقدمة من الأطراف الدولية سواء الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وحتى تمويلات البنك الدولي إلا ما نسبته 20% فقط من سكان البلدان النامية للحصول على اللقاحات. ويظل التحدي الأكبر توفير تمويل كاف لإتاحة اللقاحات وإيصالها لبقية السكان أو على الأقل للفئات الأكثر حرمانا، بمن فيهم كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة والعاملون في القطاع الصحي.
أما التمويلات المطلوبة للتعافي من حالة الكساد الاقتصادي غير المسبوقة في الماضي القريب فهي أضعاف ميزانية اللقاحات؛ وستستمر الأزمة الاقتصادية تلقي بظلالها لأجل غير محدد طالما التحدي مازال قائما من أجل مكافحة انتشار الفيروس.
بالرغم من كل هذه التحديات، مازال هناك أمل وهو الدواء للقلوب الجريحة والأرواح العليلة؛ وسنختبر أخيرًا المعنى الحقيقي لبداية جديدة في عام يهل علينا بنفحات من نور الأمل قد تخفف عن قلوبنا أثقالها وتنعش ما ذبل من خفقاتها! ومع إدراكي بأن العام الجديد بدون احتفالات وأفراح ليس بجديد على الإطلاق لكن الأمل يظل يحركنا بأن تعود الحياة نابضة ومزدهرة في قلوبنا في أقرب الأوقات، فربما يقدم الفيروس على الانتحار ونتخلص منه للأبد كما يشاع في دوائر العلماء والأطباء. سيكون حينئذ الانتحار الوحيد المشروع والمرحب به من الجميع!
ربما ليس لدينا تفسيرات مقنعة لما حدث ويحدث لنا وللعالم من مآسٍ ومحن ونجهل حتى الآن كيف جاء الفيروس على وجه الدقة وكيف غزا العالم وضرب ضرباته الموجعة لكن يحدونا الأمل بأننا تعلمنا دروسا مفيدة في مجملها تؤهلنا لمواجهات محتملة في المستقبل بأقل تكلفة وأضرار وبأفضل استعداد كما أننا قد ننظر إلى الوراء بعد مضي الجائحة وأيامها السوداء سنعي درسا مهما آخر وهو أن تلك التحديات كانت ضرورية لجعلنا الشخص الأفضل الذي أصبحنا عليه الآن!
أتمنى لكم بكل ما لدي من طاقة تفاؤل أزرعها في لغتي وأرعاها في كلماتي قدرًا من البهجة والفرح تختتمون بها عام 2020 الذي لم يكن عاديا في ضرائبه الصحية والإنسانية. كما أتمنى الحظ الجميل لكم في عام 2021 لتحققوا فيه أهدافكم المؤجلة، وتحقنوا أرواحكم المرهقة بمضادات حيوية تعيدها لنشاطها وهي الحب والسلام والأمان والصحة والسعادة، وتحفزوا إراداتكم بالمزيد من العزيمة للعمل والأمل لتحقيق أحلامكم.. وبالمزيد من الإيمان بأن أحلامكم ليست مستحيلة.
دعونا نجدد الأمل في التغلب على المشكلات التي ضاعفتها الجائحة وخلفت مزيدا من الفقر والبطالة والديون، ولنعقد العزم على أن نبذل جهودا مضاعفة للتغلب عليها وصناعة مستقبل نرتضيه لبلادنا ونستحقه نحن وأبناؤنا. لنتضرع إلى الله بأن يكون عامًا جديدًا سعيدًا يعلن خلاله العلماء التغلب على هذا الوباء المخيف وتتمتعون جميعكم بأحضان أحبائكم ودفء مشاعركم وجرأة أحلامكم. وبدوري، سأستبشر خيرا بفجر عام جديد وأردد أبيات شعر أديبة العرب غادة السمان من "أنشودة الفرح": سأغسل وجهي هذا الصباح عشرات المرات.. سأبتسم ابتسامة مشرقة كالفجر الذي عرفتك فيه.. سأتلو آيات التفاؤل وأردد أغنيات الفرح!
olfa@aucegypt.edu
#كوفيد #كورونا #عام_جديد