تَمرُ علينا اليوم ذكرى ولادة المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري؛ وسأنتهز الفرصة بهذه المناسبة للكتابة عن هذا المفكر الكبير، حيث ولد مفكرنا في عام 1936، وتوفي في عام 2010.
اقترن اسم الجابري بـ"العقل العربي"، فعندما يُذكَرُ هذا الاسم، يقفز لذهننا هذا العقل فورًا، إذ هو الناقد الكبير لهذا العقل، وصاحب المشروع النقدي المهم "نقد العقل العربي"، والذي يتكون من أربعة أجزاء:
تكوين العقل العربي ـ بُنية العقل العربي ـ العقل السياسي العربي ـ العقل الأخلاقي العربي. كتب الجابري كثيرًا، لكن هذا المشروع النقدي هو الأهم، و"ألمعية" الجابري ظهرت في هذا العمل الكبير.
هو صاحبُ "قلمٍ ساحر"، يأسِرُ القارىء الجادَ، فارسٌ من فرسان النقد داخل الفضاء العربي، كما وصفه الناقد على حرب. فلا وجود للتشتت و"الانفلاش المنهجي" عند هذا المفكر الكبير. الدخول إليه شىء، والخروج منه شىء آخر بحسب كتابات كمال الحيدري. والمنهجية المنضبطة هي السبب.
لا يتسع هذا المقال الموجز للحديث عن هذا المشروع النقدي، لكن باختصار:
قَسّمَ الجابري الأنظمة التي تَتَحَكّمُ بالعقل العربي لثلاثة أنظمة: البيان ـ البرهان ـ العرفان. وكان الجابري "مُؤَيّدًا" للبرهان، أما العرفان فقد "أقصاه" وحَمّلَه مسئولية "استقالة" العقل في الإسلام، وقد سَبّبَ هذا الموقف الكثير من اللغط وسوء الفهم لإبستيمولوجيا الجابري، وقُدّمت الكثير من الإتهامات المجانية للرجل.
وبعيدًا عن تأييد الجابري بالمطلق، فما أبعد هذه الطريقة عن المنهجية التي أتبناها وأشتغل عليها، لكن أستطيع أن أقول إن الرجل لم يُفهَم "حق الفهم" في هذه المسألة. فلم يقصد الجابري أن يَشُنّ حربًا أيديولوجية على العرفان كما صَرّح في "بنية العقل العربي"، أبدًا، بل كان "موقفًا علميًا" منه، ويمكن مراجعة هذه الموقف من النُقاد، لكن بشرط أن تكون المراجعة "علمية"، مراجعة بعيدة عن التخوين والتسقيط والشخصنة، وهذا ما كان نادرًا عند الكثير من نُقاده، مع شديد الأسف. فالجابري أكبر من أن ينزل لهذا المستوى في التفكير. أقول ذلك وأنا أختلفُ مع الجابري في الكثير، بل أختلف معه في العمق! فـ"النقد الإبستيمولوجي" الذي اشتغل عليه الجابري غير كافٍ برأيي، والمطلوب والأنجع هو "النقد اللاهوتي" على طريقة المفكر محمد أركون. وهو نقدٌ نأى الجابري بنفسه عنه، وقَدّمَ أسباب هذا النأي، وعلينا أن نحترم طريقته، رغم خلافنا معه.
تَعَرّضَ مشروعه النقدي للنقد من قِبَلِ الكثير من الباحثين، وما أصعب التعرضُ لهم في هذا المقال الموجز. لكنني سأُعَرّجُ الآن على "أكبر" و"أهم" ناقد له، ألا وهو المفكر السوري جورج طرابيشي.
إاشتغل طرابيشي على مشروع الجابري بطريقة عجيبة ومُضنية، فقد تَتَبّع الجابري كلمة كلمة، كما ذكر "الحيدري" فأصدر لنا المشروع الفكري المهم "نقد نقد العقل العربي"، ويتكون من: نظرية العقل. إشكاليات العقل العربي ـ وحدة العقل العربي الإسلامي ـ العقل المستقيل في الإسلام. ثم ألحَق بها ـ مع عدم ذكر نقد النقد: المعجزة أو سُبات العقل في الإسلام ـ من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.
لا خِلاف في "ألمعية" جورج طرابيشي، فهذا المفكر نشأ مسيحيًا، لينتقل إلى "الماركسية"، ثم يستقر أخيرا تحت لواء "العقلانية النقدية". فعمل طرابيشي عظيم فعلًا، فهو ناقدٌ فَذٌّ، قَلّ نظيره داخل الإبستمي العربي.
لكن، ما "أفسد" عمله النقدي هو "الشخصنة"! فقد "شخصن" طرابيشي -مع كل الأسف- عمله الكبير والعظيم، ولسان حاله يقول: أُكتب يا جابري! أنا خلفك! أتَتَبّعُك ولن أتركك ما بقيت!! وطبيعي أن طريقة كهذه ستُفسِدُ العمل، وسيتخللها الكثير من الهفوات والزلات والإتهامات المجانية. وأبسط مثالٍ على ذلك، أن الجابري بحسب نقد النقد: طائفي يميل إلى السُنة على حساب الشيعة، عنصري شوفيني يميل إلى المغرب العربي على حساب نظيره المشرق؛ بسبب القطيعة الإبستمولوجية المغربية مع المشرق والتي يتبناها الجابري، يكره اللغة العربية.. الخ.
ولا أحتاج إلى التأكيد بأن هذه الإتهامات المتباينة ستجعلنا أمام "مفصلٍ" في غاية الأهمية، إذ أن هذه الإتهامات لدليل كبير على "إشكالية" الجابري، أي أن الرجل لم يُفهَم حق الفهم.. فَرَحِمَ الله الجابري.
معاذ محمد رمضان
عراقي - باحث في التاريخ