لا شك أن الأصوليين يمثلون خطرا شديدا وقنبلة موقوتة تهدد البلاد والعباد في نواحي أرض الله الواسعة.. لذا ليس غريبا ولا مستهجنا أن تكون الأصولية والأصوليين مبعث اهتمام الحكومات والمؤسسات والباحثين المستنيرين هناك أو هناك.. وليس كثيرا ما ينفق من أموال لمواجهة هذا الخطر المحتوم.
الكفاح الديني أو ما يعرف بالأصولية ليست مقصورة على دين بعينه فكما أطلق بعض المتشددين الإسلاميين النار على حكامهم بدعوى الجهاد في سبيل الله، وكما ينصبون العداء للمرأة السافرة باعتبارها أصل بلاء المجتمعات، وكما يكفرون المفكرين والفنانين وحتى رجال الدين الوسطيين ولا يتورعون عن ارتكاب مجزرة هنا أو هناك غير مبالين بأرواح ودماء الضحايا. نجد أيضا أن الأصوليون المسيحيون يرفضون مكتشفات علم البيولوجيا والفيزياء بشأن أصل الحياة ونشاتها. ويصرون على أن سفر التكوين يتميز بالصحة العلمية في جميع تفاصيله.
كذلك ينزع الأصوليون اليهود إلى مراعاة قانونهم بصرامة أكبر مما شهده أي عصر مضى. ففي الوقت الذي ترفض المرأة المسلمة الحريات التي تتمتع بها المرأة في الغرب وما يترتب عليها من خلع للحجاب وغيره من الثوابت التي تتمسك بها يشترك الأصوليون من اليهود والمسلمين في تفسير الصراع العربي الأسرائيلي في إطار ديني محض.
الأصولية وكما يقول كارين أرمسترونج في كتابه (معارك في سبيل الإله- الحركات الأصولية في اليهودية والمسيحية والأسلام) لا تقتصر على أديان التوحيد الكبرى فهناك نزعات أصولية بوذية، وهندوسية، بل وكنفوشيوسية، وهذه الأصولية كغيرها ترفض كثيرا من النظرات العميقة التي توصلت إليها الثقافة الحديثة بعد جهد جهيد، وهي تحارب وتقتل باسم الدين، بل وتكافح حتى تُدخل المُقدس إلى عالم السياسة والنضال الوطني.
شهد العالم في منتصف القرن العشرين تسيد التيارات العلمانية وفي الوقت الذي توقع الكثيرون أن هذا التيار العلماني هو الذي سيقود العالم بعيدا عن التشنجات والنعرات والتعصبات فوجىء الجميع بالإصوليين في أواخر السبيعينات من القرن نفسه يتمردون على هيمنة العلمانية وومحاولاتهم المميتة والمستميتة للعودة بالدين إلى صدر المشهد.
ويرى أرمسترونج أن هؤلاء الأصوليون استطاعوا بعد جهد في تخليص الدين من موقعه الهامشي إذ أصبح الدين من جديد قوة لا تملك أي حكومة أن تتجاهلها وهي آمنة.
في بداية الكتاب يوضح أرمسترونج من أين نشأ مصطلح الأصولية إذ يقول أن البروتستانت الأمريكيون هم أول من استعمله إذ بدأ بعضهم في العقود الأولى من القرن العشرين يطلقون اسم "الأصوليين" على أنفسهم تمييزا لهم من البروتستانت "المتحررين" والذين كانوا في رأيهم يشوهون العقيدة المسيحية تشويها كاملا. وكان الأصوليون يريدون العودة إلى الأسس وإعادة تأكيد "أصول" التقاليد المسيحية والتي حددوها بالتفسير الحرفي للكتب المقدسة وقبول مبادئ أساسية معينة في العقيدة. ومن هنا أصبح هذا المصطلح يطلق على كل الحركات الإصلاحية في الأديان الأخرى.إن الأصولين يشعرون أنهم يحاربون بعض القوى التي تهدد أقدس قيمهم، ويشعرون في قرارة أنفسهم بالاغتراب والضياع عندما يتعرض المجتمع الذي يعيشون فيه لتحولات أساسية تجعل العالم يبدو غريبا ويصعب ليهم التعرف عليه.
الكتاب يرصد الحركات الأصولية في الأديان المختلفة ويوضح كيف نشأت ولماذا يكره الأصوليون قيم الحداثة والمجتمعات الحديثة والمتحررة والتي لا ترفع إلا لواء النصر للعقل والعلم.
ويبين كذلك نقاط التحول الكبرى في أوروبا قبل اكتشتاف الأمريكتين أي عندما بدأ فرديناند ملك إسبانيا بعد فتح غرناطة في تخيير المسلمين بين اعتناق المسيحية أوالطرد خارج الأندلس ثم قام بالتوقيع على "وثيقة الطرد" التي أوصت باخلاء أوروبا من اليهود وخيروا أيضا بين الطرد أو التعميد.
الكتاب الذي يبلغ ما يقرب من 600 صفحة بمثابة رحلة بقدر ما هي كاشفة وممتعة بقدر ما هي مؤلمة ومحزنة إذ ترى من خلالها الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان باسم الله، والصراع بين القديم والحديث باسم الله، والله بريء من كل ذلك.