في مثل هذه الأيام من كل عام نرتب أوراقنا، نتأمل العام الذى يلملم أوراقه ونضع خطوطا حمراء تحت مواقف بعينها، ونضع خطوطا خضراء تحت أسماء بعينها، ونتطلع للعام الجديد بشغف دافعه الأمل في أن يكون القادم أجمل.
أقل ألما، وأكثر فرحا، وابتهاجا. يفتح كل واحد منا أجندته الجديدة ويرتب فيها أولويات متأنقة، وأخرى عملية وثالثة ملفوفة في حرير الأمنيات. كان هذا العام ثقيلا مزعجا قاتما وكأنه يعاقبنا على ذنوب لم نقترفها. أو يطهرنا من آثام عبرت خيالنا مجرد عبور. كان قاسيا وما زالت قسوته تناوشنا وكأننا في حرب خفية. قسوة لم تترك لنا مجالا للفرح فتغلبنا عليها بالسخرية. قسوة المرض والخوف من العدوى والموت من فيروس لا نعلم كيف جاء وكيف تحول إلى وباء وكيف عمل كحصاد شرس وخبيث لم يترك في حدائق أرواحنا فسحة من الفرح للزهور أو العصافير. فما من عائلة إلا وأصابها موت أو مرض أوحزن لفقد جار أو مرضه حتى صرنا جميعا نرتدى عباءة الخوف ونتكمم بالفزع حينما يصلنا خبر جديد يتعلق بأعداد المصابين أو الموتى أو الموجودين في الحجر المنزلي. عام فقدنا فيه السيطرة على آمالنا وأحلامنا. وميزانيات منازلنا.
صار الحديث عن المطهرات أكثر صخبا من الحديث عن البرفانات الجديدة في إعلانات القنوات التليفزيونية، ومتابعة أعداد المصابين حول العالم أكثر أهمية من متابعة كأس العالم. هذا العام رغم صعوبته وسواده وسارية المحاذير المعلقة في كل مكان لما استطعنا عبوره بفضل الله تعالى بشدة أجهدتنا.
وعلمتنا الالتفات إلى الحقائق والالتفاف حول الصدق والاجتماع على الخير لأن حصاد الأرواح لا يبالى بالمكان الذى سيجرب فيه حدة منجله. هذا العام على المستوى الشخصى لم يكتف بكل ما سبق بل كشف لى من الحقائق المؤذية ما كاد أن يزلزلنى لولا أننى كنت أراقب جيدا ما يدور بخبرة العجائز وحكمة الموروث من كل اللغات.. ساق لى الموت في متوالية كبيرة فقدت فيها العديد من أفراد العائلة. ساق لى نعى أصدقاء كثيرين من أبناء وبنات جيلي. ساق لى خيانة كبيرة من أناس اعتدت دائما أن أجلسهم في كراسى العائلة مرتاحين مكرمين. أناس جمعنى معهم طبق واحد وملاعق كثيرة. صخب واحد وأفراح كثيرة. ألم واحد وقلوب كثيرة. فكان الفرح يكبر والحزن يصغر والكآبة والتعب يتصاغران في حضرة المحبة والإخلاص والعيش والملح وعشرة سنوات لم تدنسها أقاويل ولا تقتلها سموم الغيرة أو الشعور بالنقص. والجوع الذى يدفع بعضهم إلى أكل لحم البعض في غيابهم وشرب دمه- الذى سمحوا لأنفسهم بأن يسفحوه- لمجرد اللهو. هيا بنا نلهو بصديق أو جار. هيا نطعنه في شرفه ونخلع رأسه لنلعب بها قليلا ونكسر بابه ونزعجه كقطيع من الضباع، لأننا جبناء نزعجه، وننتصر عليه بأن نجتمع معا على الإنكار. إن واجهنا. نزعجه لمجرد التسلية ولم لا؟ فهو غافل بمحبته، أبله بعلمه مطمئن لبسمتنا واجتماعنا على لعبة قديمة اسمها الخيانة. صدمة لم تكسرنى لأن توقعها كان هينا يسيرا. ولأنهم ببساطة كانوا قصار النظر لدرجة مضحكة. لم بفكروا في حجم جبل الجيلد الذى لا تظهر سوى قمته ولم يحاولوا ولو لمرة واحدة أن يقتربوا منه بشكل حقيقى ليعرفوا قدره. هذا العام على المستوى الشخصى زاد من قوة إيمانى بمبادئي. ورفضى للزيف والمرضى النفسيين. زاد من عشقى لمقولة عمر بن الخطاب رضى الله عنه «اعتزل ما يؤذيك» ولهذا اعتزلت، ووضعت خطوطا حمراء تحت مواقف بعينها وخطوطا خضراء تحت أسماء بعينها وأخرجت أجندتى لترتيب أولوياتي. فأهلا وسهلا ومرحبا بكل هين لين يدفعنا إلى الغد وكل غد يدفعنا إلى العمل وكل عمل يدفعنا إلى الاجتهاد وكل اجتهاد يدفعنا إلى النجاح والقوة التى تثبت لنا أننا أسوياء.