أبى هذا العام لن يرحل دون أن يأخذ معه ثلة من الأحباب والأصدقاء، كان آخرهم الدكتور نبيل فاروق، ذلك الرجل الذى ساهم بقلمه في تشكيل وعى أجيال تربت على رواياته لا سيما رجل المستحيل أو أدهم صبرى، تلك الشخصية الأسطورية التى ابتكرها نبيل فاروق في وقت كان التيار المتأسلم قد امتلك فيه أفئدة وعقول الشباب، فجاء أدهم صبرى رجل المخابرات المصرية ليغير بعض المفاهيم المغلوطة ويبعث في نفوس جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى قيمة حب الوطن والتضحية والفداء من أجله، بينما كان الآخرون يتحدثون في أدبياتهم عن اللاوطن واللاحدود، وعن أحلام الخلافة المزعومة، ويبدو أن قطاعا كبيرا من الشباب وقتها كانوا في شوق لمثل هذه الشخصية الأسطورية التى ابتدعها نبيل فاروق حيث كانت نسخ الرواية تنفذ خلال ساعات قليلة من طرحها، وكانوا يتبادلون فيما بينهم نسخ تلك السلسلة التى استمرت لسنوات طويلة، وظل الأمر يتكرر مع كل عدد أو مغامرة جديدة تطرحها دار النشر حتى قرر نبيل فاروق في مطلع الألفية الجديدة أن ينهى حياة أدهم صبرى، وأذكر وقتها كيف قابل القراء هذا الأمر بالرفض وكيف أقاموا سرادقًا للعزاء عبر الصحف والمجلات والبرامج الأدبية إذ لم تكن ساحات مواقع التواصل الاجتماعي قد افتتحت بعد، وقد كان لى شرف معرفة الدكتور نبيل فاروق عن قرب، حيث التقيته أول مرة في 2004 مع صديقى المخرج الإذاعى المتميز إيهاب منير واتفقنا معًا نحن الثلاثة أن نبدأ مشروعًا لتعليم الشباب الموهوب فنون الكتابة والتمثيل والإخراج، وأصبح نبيل فاروق هو المسئول عن ورشة الكتابة بينما أصبح المخرج الكبير هانى لاشين هو المسئول عن ورشة التمثيل واستمرت هذه الشراكة حتى جاءت 2011 بأحداثها الجسام فتوقف العمل، وطوال السنوات السبع التى جمعتنا فيها الشراكة لم تكن نفارق بعضنا البعض، وخلالها اقتربت كثيرًا من عالم نبيل فاروق الطبيب الذى احترف الأدب وترك مسقط رأسه طنطا لتفتح له القاهرة أبوابها مستقبلة إياه ومرحبة بموهبته وقدرته على الإقناع والتحليل، فقد كان يملك رؤية ثاقبة للأشياء وكانت تلك الرؤية تمكنه من استشراف المستقبل، وكان حديثه شيقًا فلا يصيبك السأم أو الملل مهما تكلم وقال، فمن بين ثناياه تخرج الحكم، وفى زيارة له في بيته وجدت أوراقا كثيرة نسميها في عالمنا "دشت" واكتشفت أنها تحوى مغامرات لرجل المستحيل لكنها لم تنشر، فاقترح صديقى إيهاب منير أن ننشر كتابا بعنوان "أوراق لم تنشر بعد من رجل المستحيل" ووافق الراحل العظيم وبالفعل تم نشر الكتاب الذى حقق مبيعات كبيرة، وكانت هذه التجربة كفيلة بأن يبدأ الرجل في نشر سلسلة جديدة من الروايات تحت مسمى "مسرح الجريمة" ولكن مع توقف الشراكة وانشغاله بأعمال أدبية أخرى انتهت هذه السلسلة بعد عددين فقط، وبعيدا عن العمل المشترك فقد كان نبيل فاروق إنسانًا متواضعًا مجاملًا، لا يترك مناسبة إلا وكان الأسبق في التهنئة، وقبل وفاته المفاجئة بعدة أيام كنا نتحدث هاتفيًا، ودعانى للغذاء في بيته بالرحاب ومعى صديقنا المشترك إيهاب منير فوعدته بأن يحدث ذلك فتمتم بكلمات عاد صداها إلى آذانى يوم وفاته حيث قال "بتقول هاجى ومابتجيش، شكلى هاموت قبل ما تيجى" كم كانت الكلمة موجعة لكننى لم أشعر بوجعها إلا بعد رحيله، فقد تحقق ما قاله ليثبت أنه يملك قدرة فائقة على استشراف القادم دائمًا، وهكذا انطفأت شمعة أحد الوطنين المخلصين المحبين لتراب مصر والذى تميز في كل المجالات الأدبية فكتب السيناريو التليفزيونى لمسلسل العميل 1001، وكتب القصة السينمائية لفيلم الرهينة، كما كتب العديد من النصوص الإذاعية لمسلسلات وبرامج درامية، وكتب المقال والرواية والقصة القصيرة، وكان نبيل فاروق غزير الكتابة، لا يتوقف عنها يومًا، حتى في مرضه حيث كان يضع وسادة على ركبتيه وهو على سرير المستشفى إذا مرض أو ذهب لإجراء جراحة ما، ويجلس ليكتب، فالقلم هو صديقه الذى لا يفارقه والورق هو محبوبه الذى يبوح له بأسراره دائما، ولا شك أن كتابات نبيل فاروق كانت ملهمة لجيل كامل ارتبط برواياته التى تعدى نجاحها الحدود الجغرافية، فصار اسمه علمًا في كثير من البلدان العربية، رحمك الله ياصديقى وأخى وأستاذى، يا من كنت أنهل من ثقافتك الموسوعية، وأجالسك لأتعلم منك، أيها الطبيب الأديب الإنسان.
سأفتقدك كثيرًا