كما كان "الممر" الفيلم السينمائى الشهير ممرًا للدولة كى تعبر من خلاله إلى وعى ووجدان شباب هذه الأمة لإحياء المشاعر الوطنية وإشعال جذوتها مجددًا؛ كانت ممرات وسط البلد حتى وقت ليس ببعيد تلعب دورًا رئيسًا في خلق روح الوطن بما كانت تحتضنه من منتديات ومقاهٍ تجمع المثقفين والأدباء والسياسيين والصحفيين يتناقلون خبرات الأجيال ويغذون روح الشباب المبدع بالمعرفة والأفكار المتنوعة والمتعددة لكن على أرضية حب الوطن.
قبل أكثر من عام عرض المخرج السنيمائى سميح منسى فيلمه التسجيلى "مقاهى وأزمنة"، وبلغة سينمائية راقية رصد بدقة ذلك الدور الذى لعبته مقاهى وسط القاهرة في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية وتنقل عبر الأزمنة بين مقاهى متاتية وريش وعلى بابا والحرية والندوة الثقافية والحامدية وزهرة البستان وفؤاد مهران الشهيرة بأفتر إيت، راصدًا دورها الوطنى من ثورة 1919 حتى أحداث يناير 2011؛ معرجًا على زبائنها رموز الحركة الوطنية والسياسية والثقافية والفنية من محمد عبده وجمال الدين الأفغانى إلى العقاد وأمل دنقل ونجيب محفوظ.
أذكر في هذا السياق أن بدروم مقهى ريش كان مقرًا سريًا لطباعة منشورات ثورة 1919، وهو اليوم بما يحويه من مقتنيات يعد متحفًا صغيرًا يروى حكاية وسط البلد تمامًا، كما أن صور كبار المفكرين والأدباء والفنانين المعلقة على جدران المقهى تشهد بأن مقاهى وسط البلد لم تصنع فقط روح العاصمة لكنها كانت شريكًا رئيسًا في عملية إنتاج روح الوطن بأسره.
عندما كنت أخطو خطواتى الأولى في بلاط صاحبة الجلالة في منتصف تسعينيات القرن الماضى لم تكن صالات التحرير المدرسة الوحيدة لتعلّم مهنة الصحافة، مقاهى وسط البلد كانت جامعة شاملة فيها التقينا أساتذة كبارًا في مهنتنا، وكانت طبيعة المقاهى تمنح المزيد من المساحات لهؤلاء الأساتذة ليرووا خبراتهم، وبين جنباتها التقينا سياسيين ومثقفين وفنانين كبارًا كانت جلساتهم ندوات ثقافية مفتوحة دون سابق ترتيب.
صحيح أن أشياء كثيرة قد تغيرت لم تعد هى ذاتها وسط البلد التى عرفناها قبل أكثر من ربع قرن؛ لكنها تبقى المركز الرئيسى للحركة الثقافية والسياسية والاجتماعية، إليها يأتى أدباء الأقاليم ومثقفوها وفنانوها يتلمسون طريق تقديم إبداعاتهم.
أبدًا لن تكون وسط البلد حيًا كباقى أحياء القاهرة، ففيها تنتج روح البلد، وهى في ذلك ليست فريدة أو وحيدة فمعظم العواصم الكبيرة عُرفت فيها أحياء تضم مقاهى ومنتديات تجمع المثقفين والمفكرين والمبدعين، وحرصت الإدارة السياسية في تلك الدول على المحافظة على طابع تلك الأحياء ومكانتها لأنها إحدي أدوات تعزيز الهوية الوطنية والثقافية.
تحتاج دولة الثلاثين من يونيو لمشروع قومى لإعادة إحياء وسط البلد كونها المركز الرئيس للثقافة بمعناها الواسع، وكونها إحد] الإشارات المهمة على حيوية الحركة الثقافية والسياسية بما تشهده مقاهيها ومنتدياتها من تفاعل قد لا يكون مرايا لكثيرين بين أجيال المثقفين والمبدعين.
ثمة أفكار كثيرة لصياغة هذا المشروع القومى، يقول المخرج سميح منسى: بإمكان الدولة أن تضع تصورًا لعمل جماعى تشترك فيه وزارات الثقافة والإعلام والتعليم والمؤسسات الثقافية الخاصة والعامة وحتى أصحاب دور النشر يقوم على خلق حالة كرنفالية في وسط البلد بحيث تخصص أماكن لتقديم العروض المسرحية وحفلات الموسيقى للفرق الشبابية الجادة، ومعارض الفن التشكيلى، فيما تقام منتديات أخرى تعقد فيها الندوات الثقافية والسياسية، حينها سيلتقى شباب المثقفين والمبدعين والصحفيين مرة أخرى بمن يسبقونهم بالخبرة والتجربة وسيعود لمقاهى وسط البلد دورها في استيعاب الجميع وللمشاركة في إعادة إنتاج روح هوية هذا الوطن.
قد تساعد التكنولوجيا وأدوات العصر الحديثة في تقدم البلد، لكنها ليست مؤهلة للحفاظ على هويته وتجديد روحه وهذه دعوة لدولة الثلاثين من يونيو لاستثمار ما لديها من مقدرات وإمكانات لإحداث تنمية ثقافية وسياسية واجتماعية نحن بأمس الحاجة إليها في معركة الوعى والحفاظ على الهوية المصرية، بل استردادها.
التطور الجمالى الملحوظ الذى شهدته بنايات وسط البلد وشوارعها وأرصفتها خلال السنوات الأخيرة ينقصه مشروع قومى تقوم عليه الدولة لاستعادة دورها الحيوى في إنتاج الحياة الثقافية والسياسية وإلا فقدنا جزءًا عزيزًا من روح هذا الوطن إذا تركناه يتحول إلى مجرد مركز تجارى لمحال الملابس والأدوات الكهربائية.