في هذه المقالة أعقِّب على موقفين رواهما عباس العقاد في كتابه (في بيتي).. فقد أثارا إعجابي، وقدحا زناد فكري، وفتحا شهيتي للكتابة.
في الموقف الأول يقول العقاد: لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضًا في بعض الأيام، كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها، يا سلام، كتب كتب كتب، كل هذا كتب، شيء (يدوِّخ)، ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء.
ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب، فلم تعرفها جلودًا وأوراقًا وألوانًا تشوِّق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة، زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟.
هذه الفتاة عبرت عن انبهارها بكمية الكتب التى رأتها وبتنوعها بوصف غاية في الدقة والعمق، نعم يمكن أن يصاب الإنسان (بالدوخة) حينما تتزاحم المعارف في ذهنه، ويصاب بالدوار حينما تتكدس أمام عينيه صنوف من الكتب على اختلاف محتواها، ولكنه الإنسان المتعطش للمعرفة فقط هو من يحدث له ذلك، مثله في ذلك مثل الإنسان الذي اشتد به الجوع ورأى مائدة طويلة عليها ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب؛ فينقض عليها يلتهم طعامها وشرابها حتى يمتلئ.
والنَهِم على المعرفة غير النهم على المأكل، فالجائع يأكل حتى يشبع، ولكن المعرفة لا تُشبع أبدًا، بل كلما ازداد الإنسان منها، ازداد عطشًا إليها؛ فالمعارف تجعل الإنسان يعيش أعمارًا إلى عمره، وتجعله يترحّل بين بلدان العالم وهو لم يبرح مكانه.
والعقاد الذي اقتبسنا منه هذا الموقف موضوع الحديث، كان يهوى القراءة، وكان يقول إنها هي وحدها التى تعطيه أكثر من حياة واحدة، وكان يعني بذلك أنها تزيد حياته من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها من ناحية الحساب، والدارس لحياة العقاد يعلم أنه كان يفضل ثلاثة أنواع من الكتب: الأدب وفلسفة الدين وغرائز الحشرات!
وظاهر موضوعات هذه الكتب أنها متفرقة، تفترق فيما بينها افتراق المشرق والمغرب، وحقيقة الأمر _ كما يقول العقاد _ إنها كلها مادة للحياة، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه؛ فغرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة، وفلسفة الدين بحث في الحياة الخالدة الأبدية، والأدب قبس من حياة الإنسان في حالي الحب والنقمة.
ولكن الأمور ليست دائمًا بهذه الفلسفة العميقة التى يصورها العقاد، وربما رأى أحدهم أن أصل الحياة ومآلها لا يحتاج إلى بحث من الأساس، على اعتبار أن أصلها معروف ونهايتها حتمية ومعروفة كذلك، وهنا يحضرني موقف من رواية قصر الشوق لنجيب محفوظ، فحينما سأل سي السيد – وهو الرجل الذي لا يهتم بفكر ولا بثقافة – ابنه عما يريد أن يدرس، فقال له أنه سوف يدرس في مدرسة المعلمين العليا؛ لأنها هي الطريق إلى ثقافة الفكر، فقال له سي السيد وإيه هي ثقافة الفكر دي؟ فأجاب ابنه: البحث عن أصل الحياة ومآلها.. فرد سي السيد ببساطة: أصل الحياة آدم، ومصيرها الجنة أو النار، فيه حاجة تانية؟!
أما في الموقف الثاني يقول العقاد: "واحتجنا يومًا إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها، ريثما نصلحها ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيًّا أميًّا يزور قريبه، أو يزور آل البيت على التعبير الصحيح، أو لعلها أولى زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء، ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الأفرنجية، فإذا رأى كتابًا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرأه المطهرون، فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيّب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه كما قال لم يكن على وضوء!
أليس لهذا الريفي الأمي منطلق صادق فيما فعل على البداهة؟ إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟!
لقد أكبرتُ تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله؛ لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها، حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام".
فهذا الرجل البسيط يقدّس الكتاب، لا لشيء سوى أنه به علم أو دين، وهما في نظره يستويان، ولكن ما فاته، وما كان له أن يدركه، أن الكتب بها الغثّ والثمين، بها ما يستحق أن تنفق وقتك وجهدك في مطالعته، ومنها ما لا يساوى الحبر الذي كتبت به.
بل إن موقف هذا الرجل لا يبعد كثيرًا عن مواقف بعض المتعلمين، الذين لا يكادون أن يميزوا ما يقرأون، وتراهم ينساقون وراء موقف لكاتب أو رأي لعالم، دون تمحيص أو تدقيق.. ومن منا لم ينخدع يومًا بكتابات هذا أو ذاك، وظن أن بها ما يروى الظمأ، وما إن اقترب منها حتى وجدها سرابًا، لا تسمن ولا تغني من جوع.