عرفته لما يزيد على ربع قرن ومع ذلك لم يتغير انطباعى الأول عندما التقيته في ذلك الممر النافذ بين شارع محمود بسيونى، حيث حزب التجمع وجريدة الأهالى وجروبى وبين شارع قصر النيل حيث مسرح قصر النيل ونادى السيارات؛ حينها شعرت وكأننى صعدت آلة الزمن لأعيش في فيلم قديم مع النماذج المصرية الأصيلة لـ«أولاد البلد والمعلمين والفتوات الجدعان».
من لم يعرفه ربما اعتقد أن مصر خلت من ولاد البلد ونموذج «المْعلم» الشهم العارف بالأصول الذى لم يره إلا في أفلام الفنان الراحل محمد رضا، ربما كانت آخر مرة تعرف على هذا النموذج مع شخصية حسن أرابيسك في رائعة أسامة أنور عكاشة.
ليس نجمًا تعرفه الفضائيات والصحف لكنه نجم يعرفه أغلب من عمل فيها؛ عنده كان يجتمع المثقفون والمبدعون والشباب المتحمس الذين صار منهم نجوم المجتمع في الفن والسياسة والمجتمع المدنى والأهلى ناهيك عن الصحافة والإعلام.
إنه «المعلم» فؤاد مهران صاحب مقهى مهران الشهيرة بـ«افتر ايت» أحد أهم وأقدم المقاهى الثقافية التى عرفتها مصر منذ منتصف القرن الماضى تقريبًا، رحل نهاية الأسبوع الماضى عن عمر اقترب قليلًا من المائة وكان يمارس عمله حتى فاضت روحه إلى بارئها.
كان يعرف وسط البلد شبرًا شبرًا، عليمًا بحكاياتها وما يدور داخل ممراتها فقد جاءها شابًا في أربعينيات القرن الماضى عندما كان لا يسمح لمرتدى «الجلابية» من ولاد البلد السير في شوارع قصر النيل وسليمان باشا وأن تكون مقسومًا نصفين-بحسب تعبيره- شرطا لإجازة عبور تلك الشوارع- يقصد أن تكون أفندى ترتدى قميصا وبنطالا.
على مقهاه جلس فنانون ونجوم من أيام الزمن الجميل فيه عرف كامل الشناوى ورفاقه من مثقفى ومبدعى ذلك العصر، وجلس توفيق الدقن ووحيد سيف والعازفين بفرق فريد الأطرش وأم كلثوم عندما كانوا يحيون حفلاتهم على مسرح قصر النيل.
في مقهاه المتواجد داخل ممر طويل والممتد عبر ثلاث ممرات أخرى داخلية جلس الراحل خالد صالح وحافظ أبو سعدة وعلى ما أذكر كل نجوم المجتمع المدنى والسياسة والصحافة الذين نعرفهم اليوم وأجيال ممتدة من الفنانين وصولًا للنجم صبرى فواذ.
كانت لديه قدرة غير عادية لخلق مساحات للتواصل مع الجميع، لم تكن أصوات قرقعات الشيشة والطاولة والدومينو الشيء الوحيد الذى يسيطر على أجواء المقهى، في الجوار كانت بعض فرق شباب المسرح تجرى ما يسمونها ببروفات الترابيزة، وفى وسط المقهى كانت فرقة وسط البلد تشهد أيام ولادتها الأولى؛ أعضاؤها يغنون ويعزفون ليكون زبائن المقهى أول جمهورها، وفى الجنبات كانت تعقد شبه ندوات بعضها سياسى وبعضها ثقافى وبعضها لإلقاء الشعر.
كان أخًا وأبًا وجدًا للجميع، لم يغضب يومًا لأن أحدهم جلس وشرب ثم لم يدفع، على العكس كان يبادر بعرض المساعدة المالية إذا شعر أن أحدهم يعانى مشكلة.
كان سندًا لكثيرين وكانت مقاهيه مأوى آمن لكل شاعر أو صحفى أو مبدع شاب جاء للتو من قريته البعيدة، عرفته وسط البلد شهمًا كريمًا حكيمًا لا يتدخل في مشكلة أو شجار إلا وانتهى بالصلح والسلام.
في الأيام الأولى لثورة 25 يناير عندما كانت تشيع أنباء هجوم البلطجية على مختلف أحياء القاهرة كانت مقهى فؤاد مهران أكثر الأماكن أمانًا بفضله وأبناءه الذين أمنوا مداخل الممر، كانت الناشطات والسياسيات والصحفيات يخشين العودة إلى منازلهن ولا يجدن ملاذًا آمنًا أكثر من مقهى المعلم فؤاد، لست بحاجة للنقود في جيبك دائمًا، المعلم يصبر ويسامح.
بالمناسبة هو نموذج مازال موجود في حياتنا لكن يبدو أن هناك من أراد إيهامنا بأن مصر خلت من أولاد البلد الجدعان وقدم في السينما والدراما بشكل مكثف نماذج البلطجية فسار عبده موته رمزًا مفروضًا علينا وكأنه الواقع السائد.
عميت أبصارهم أولئك الذين أنتجوا هذا النوع من الدراما عن نموذج الملعم فؤاد مهران تمامًا كما عميت أبصار من أحالوا ممر «أفتر إيت» إلى مجرد خرابة بعد أن قامت إحدى شركات الاستثمار العقارى بشراءه ضمن عملية أثارت علامات الاستفهام بدأت في عام 2007 لشراء أقدم وأعرق بنايات منطقة وسط البلد.
كان من الممكن أن تعمل هذه الشركة على تطوير مقهى فؤاد مهران الشهير بـ»أفتر إيت» كواحد من المعالم الأساسية للحياة الثقافية المصرية بحسب فيلم تسجيلى عن مقاهى وسط البلد للمخرج سميح منسى.
كانت مقهى فؤاد مهران أقرب إلى نادى اجتماعي وثقافى، الكل يعرف الكل، لذلك بكته وسط البلد ونعته حتى جدرانها وممراتها وشوارعها.