في الأسبوع الماضى رحل عن دنيانا أحد أهم مخرجى الإذاعة المصرية منذ نشأتها وحتى الآن، وهو المخرج القدير محمد مشعل، ذلك الرجل الذى أثرى المكتبة الإذاعية بمئات الأعمال الدرامية على مدى نصف قرن من الزمان قضاه في العمل الإذاعى كمخرج في البرنامج العام وكمدير لإدارة التمثيليات قبل أن يحال إلى المعاش ويوجه نشاطه إلى الإذاعات العربية والتى طالما استفادت من خبرته الطويلة في الإنتاج والإخراج الإذاعى منذ بداية السبعينيات، وقد كان لى شرف لقاء هذا العملاق والتعلم على يديه حتى صرت إبنًا من أبناءه وذلك منذ تخرجى في المعهد العالى للفنون المسرحية عام 1989، حيث ساقه القدر إلىَّ يوم تخرجى،حين كنت جالسًا على سلم المعهد وجاء يسألنى عن مكتب الراحل سناء شافع والذى كان عميدًا للمعهد آنذاك فاصطحبته دون أى معرفة مسبقة، وفى الطريق التقانا الأستاذ أشرف زكى المعيد بالمعهد آنذاك والذى استقبل الرجل بحفاوة بالغة ثم سألنى: أتعرف من هذا ؟ قلت: لا قال: هذا هو أهم مخرج إذاعى في الوطن العربى،ثم عرفه بى وأخبره بأنى قد تخرجت للتو في قسم الدراما والنقد فسألنى الرجل أتحب الكتابة الدرامية؟ قلت: هى عشقى، فقدم لى كارتًا صغيرًا به أرقام هواتفه وطلب منى أن نلتقى مساء في مكتبه بالمنيرة، وبالفعل حدث اللقاء الذى تولدت فيه مشاعر الأبوة، إذ قرر الرجل أن يضع خبرته في دعم شاب يحب الكتابة، فقدم لى نصوصا إذاعية لأساتذة كبار كتبوا أعمالًا خالدة للإذاعة مثل عبدالفتاح مصطفى وطاهر أبوفاشا وعبدالسلام أمين ومصطفى الشندويلى وبدأت أقرأ أعمال هؤلاء وأنهل منها وأناقشه فيما كتبوا، وكنا نجلس لساعات طوال داخل الاستديو الخاص به ليسمعنى أعمالًا قديمة ويعلمنى كيف صاغها عمالقة الكتابة الإذاعية، ثم عرفنى بغيره من المخرجين مثل الراحل حسنى غنيم وعبده دياب وعصمت حمدى وغيرهم، وقدمنى لحلمى البلك والذى كان رئيسًا للإذاعة وفاروق شوشة الذى كان رئيسا للبرنامج العام فاعتمدنى مؤلفًا، وعلى مدى أكثر من عشرين عامًا قدمنا سويًا مئات الأعمال الدرامية التى فازت بالكثير من الجوائز في مختلف المهرجانات، وللحق فإن محمد مشعل لم يكن مخرجًا تقليديًا بل كان سابقًا لعصره ومبتكرًا، وكان صاحب رؤية وعقيدة تكونت على أثر مشاركته في حرب 73 كضابط إحتياطى بالجيش المصرى، ولذا فقد كان حريصًا على تقديم بطولات رجال القوات المسلحة ممن حاربوا في معركة الكرامة، فشرفت بكتابة العديد من المسلسلات الإذاعية التى تجسد تلك البطولات على مدى سبع سنوات متصلة وقام هو بإخراج جميع هذه المسلسلات، وقتما كان مسلسل الخامسة والربع تنصت له جميع الآذان في كل مكان وينتظره الناس كطقس يومى عقب نشرة الخامسة عبر أثير البرنامج العام، وكان جلال معوض وأمين بسيونى ومحمود سلطان وصفية المهندس هم الذين يقدمون هذه المسلسلات بأصواتهم المميزة، وكان كل نجوم التمثيل يشاركون في هذه المسلسلات، فبداخل استديوهات الإذاعة شاهدت محمود مرسى وعبدالمنعم مدبولى وصلاح السعدنى وأحمد مرعى ومحمود ياسين ونور الشريف ومرفت أمين ويحيى الفخرانى وهم يقفون خلف الميكرفون وفى أيديهم الحلقات التى كتبتها بخط يدى بينما يجلس محمد مشعل في غرفة التحكم موجهًا إياهم ومقدمًا ملاحظاته وصولًا إلى الحالة التى يريدها، ورأيت نجوما في العمل الإذاعى يتسابقون للعمل معه كأنور عبدالعزيز وإيناس جوهر وسهير طه حسين ومحمد إسماعيل وغيرهم، أما الجانب الدينى فلا يمكن إغفاله أو تجاهله عند محمد مشعل والذى كان مولعًا بالصوفية ومعًا قدمنا عشرات الأعمال الدينية أذكر منها «در السحابة فيمن نزل بلاد الخليج من الصحابة» و«هذا هو الإسلام» و«يسألونك» و«رجل بألف رجل» عن سيرة القعقاع بن عمرو التميمى و«نفحات من القصص النبوى» و«آيات وحكايات» وغيرها من البرامج والمسلسلات الدينية، فضلًا عما قدمه مع غيرى من المؤلفين، وقد كان محمد مشعل معطاء يؤمن بإعطاء الفرصة للأجيال الجديدة، ولهذا فأغلب مخرجى الإذاعة تعلموا على يديه وسعوا لمساعدته ولا أحد ينكر له فضل تقديم عشرات من المخرجين والمؤلفين مثل إسماعيل عبدالفتاح وأيمن فتيحة وايهاب منير وغيرهم وذلك إبان كانت الإذاعة تنتج مسلسلًا كل شهر بالإضافة إلى السباعيات والسهرات والبرامج، أما الآن فقد باتت لا تنتج شيئًا على الإطلاق وتعتمد على كل ماهو قديم.. رحم الله الأستاذ والمعلم والصديق والأب محمد مشعل الذى يجب أن تكرمه الإذاعة بإطلاق اسمه على أحد استديوهات الدراما التى أفنى عمره بداخلها.
آراء حرة
وداعًا.. محمد مشعل
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق