"فى البدء كانت الكلمة" كما يقول الكتاب المقدس، ولكى تصبح حكيمًا هناك ثلاث طرق، التفكير وهى أنبل الطرق، والثانية التقليد وهى أسهل الطرق، والثالثة التجربة وهى أكثر الطرق مذاقًا، وإذا كنت تريد التخطيط للمستقبل، فعليك معرفة الماضى كما يقول كونفوشيوس، الذى ما زال أثره مستقرا فى ضمائر وعقول وأفئدة البشر.
أسمع وأنسى، أرى وأتذكر، أعمل وأفهم، من مقولة كونفوشيوس سار كل الذين أضاءوا شمعة فى هذا العالم ثم رحلوا فى هدوء، ومنهم من لم يلتفت إليه أحد إلا بعد رحيله بعقود.
الأضواء لم تعن لهم كثيرا، والصعود المبتسر لم يشغلهم لحظة لأنهم وثقوا فى حكمة كونفوشيوس ورجاحة عقله عندما ترك لهم عبارته الأبدية: "لا يهم أنك تمشى ببطء، ولكن المهم هو ألا تتوقف". لذا نجد أن "مونتيسكو" قضى عمره لإنجاز "روح القوانين" الذى أخذت منه كل دساتير العالم "مبدأ الفصل بين السلطات" وكان لكتابه "الرسائل الفارسية" وكتاب "رسائل إلى الإنجليز" الذى أنجزه فولتير بعده بثلاثة عشر عاما أثرا كبيرا فى فرنسا وسببا قويا لدخول باريس عصر الأنوار.
يقول كونفوشيوس: "نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر" ولأن مكيافيلى لم يكن عبدا ولا متعصبا ولا مجنونا فقد كتب" الأمير" لتخليص إيطاليا من الاعتداءات المستمرة عليها من الخارج.
أنجز مكيافيلى "الأمير" وهو لا يعبأ بالضرر الكبير الذى سيلحق بسمعته لا لشيء سوى أنه ترك بين دفتى كتابه مقولته الأشهر "الغاية تبرر الوسيلة".
ولغاية لا تقل أهمية عن غاية مكيافيلى، كان كارل ماركس مستعدا لينفق حياته هو وأولاده ليرى "رأس المال" النور، فقد توفى ثلاثة من أبنائه وهم صغار بسبب الحياة البائسة التى كان يحياها هو وزوجته، ولشدة الفقر كتب مرة إلى رفيقه آدم سميث إنه لا يستطيع الخروج من منزله لأنه رهن معطفه ليسدد ديونه.
الغريب أنه قال ذات مرة عن نفسه "لا أحسب أن أحدًا قد كتب عن النقود وجيوبه خاوية إلى هذا الحد". وبرغم ما كان يعانيه هذا العظيم البائس فقد أحدث كتابه دويا كبيرا فى الوقت الذى كانت أحوال الصناعة فى أوروبا وإنجلترا على وجه الخصوص مريرة وبائسة.
رحل ماركس تاركا كتابه لتعتبره بعض الشعوب مقدسا وأبى رفيقه آدم سميث أن يرحل دون أن يترك أثرا يغير به الحياة الاقتصادية فى العالم من خلال "ثروة الأمم "الذى أسس للنظرية الكلاسيكية فى الاقتصاد وفى الليبرالية الاقتصادية على السواء كما يقول أمارتياكومارسين أحد الحاصلين على جائزة نوبل فى الاقتصاد.
الذين آمنوا بالكلمة وضرورتها ليغيروا الأوضاع البائسة التى تلتهم سعادة البشر وحياتهم كثيرون، ورغم أن أثرهم لن ينمحى، لكن الحياة ما زالت بحاجة إلى متطوعين جدد لا يعبأون بالأسى وشظف العيش ليحققوا حلمهم هم وآبائهم الأوائل، ولا يبالون أيضا بالذين صعدوا إلى الضوء فى غفلة، فكثير من الصعود زائف ومبتسر.