لا أعتقد أن مناضلا وطنيا حقيقيا على مدي التاريخ قام بالاستقواء بالخارج على وطنه لتحقيق هدف سياسي ما، أو لتغيير نظام حكم حتى ولو كان استبداديا، ولعل ما شهدته الدول العربية، في خلال العقد الحالي، كان شاهدا على أن هذا الخارج، لم يكن يهدف من خلال دعم من يسمون بالعناصر الثورية سوي وسيلة خبيثة، لهدم الأوطان، وتفتيت قيم المجتمعات العربية.
ودهشت كيف صدق البعض هذه اللعبة الرخيصة، التي قادتها أمريكا، لتفتيت الدول العربية، تحت عنوان ما سمته عندئذ بـ"الفوضي الخلاقة"، التي فتت دولا عديدة، منها سوريا وليبيا واليمن، وسبقتهم العراق التي ما زالت تعاني، منذ ما يقرب من سبعة عشر عاما.
فأثارني خبر قيام بعض من يعتبرون أنفسهم نشطاء، في مجال حقوق الإنسان، بإرسال تقارير إلى رئيس أمريكا (الديمقراطي) المنتخب مؤخرا "جو بايدن" تطالبه بالتدخل فيما ادعته ب"انتهاكات حقوق الإنسان في مصر"، ظنا منهم أن بايدن سوف يكون وسيلتهم نحو الضغط على مصر، كي تستجيب لمطالبهم الخاصة واعادة البلاد إلى حالة الفوضي، التي عاشتها مصر في عام ٢٠١١ إلى قيام ثورة ٣٠ يونيو.
التاريخ يذكر لنا عشرات النماذج التي خانت أوطانها من أجل مصالحها الذاتية منهم من ذكره الجبرتي في يومياته عندما احتل الفرنسيون مصر عينوا مصريا من اصل رومي يدعي "بارثلميو" الذي منحه الفرنسيون رئاسة مدينة القاهرة، وكان يتلذذ بقتل كل من يقف ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد وفتك بعشرات المئات ممن قاموا بثورة القاهرة ضد الفرنسيين وكان يتباهي بعدد الرؤوس التي يجمعها في أجولة من قتلي المصريين من بدو وفلاحين.
وهناك أيضا المملوكي "مراد بك" الذي ولاه الفرنسيون على الصعيد، وكان يسوم أهالي الصعيد العذاب، ويجمع منهم الضرائب لصالح أسياده الذين ولوه، وكان يشتري السلاح بأموال المصريين، ليمنحه لأسياده الفرنسيين، لكي يفتكوا بالمصريين الذين يرفضون الاحتلال.
قصص الخيانة لا يمكن أن تخلوا من قصة "خنفس باشا" الذي ساهم في تغيير وضع مصر، بعد أن خان الجيش المصري لصالح المحتل الإنجليزي، وخنفس باشا هو لقب عرف به الضابط المصري "على يوسف"، الذي كان من أهم الضباط الذين خانوا أحمد عرابي في معركة التل الكبير، وتسببوا في هزيمة فادحة للجيش المصري، انتهت إلى احتلال الإنجليز للبلاد.
ففي اليوم السابق لمعركة التل الكبير، أرسل الضابط "على يوسف" من مقدمة الجيش إلى عرابي يبلغه بأن الإنجليز لن يتحركوا في ذلك اليوم، فركن الجيش المصري إلى الراحة، بأمر قواده ليتأهب للمعركة الفاصلة من صبيحة الغد. غير أن القائد الإنجليزي ولسلي تأهب في مساء اليوم ذاته للزحف في هدوء تام بعد منتصف الليل، فانسحب عبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع الذي كان يحرس الطريق الصحراوي من الشرق ـ انسحب شمالًا ليخلي الطريق لمرور الإنجليز، أما على يوسف (خنفس باشا) فلم يكتف بترك الجيش الإنجليزي يمر بجوار قواته، بل وضع له الفوانيس على المسالك التي يمكن السير فيها بيسر، وفي فجر الثالث عشر من سبتمبر وقعت الهزيمة الماحقة بالجيش المصري في التل الكبير.
وفي ١٥ سبتمبر وصل الإنجليز منطقة العباسية، ومنها ساروا إلى القلعة ـ وكان بها أربعة آلاف جندي ـ فسلمهم خنفس مفاتيحها.
وكان الإنجليز قد وعدوه بمكافأة نظير خيانته لجيش بلاده، قدرها عشرة آلاف جنيه، ألا أنهم لم يعطوه سوي ألفي جنيه فقط، وظل طوال حياته، يرسل تظلمات إلى الإنجليز، لم يعيروها أي اهتمام، وظلوا يحتقروه كما احتقره مواطنوه، حتى مات حقيرا مذموما من سادته الإنجليز، ومن أهل وطنه المصريين على السواء.
الخيانة واحدة ومحتقرة على مدي التاريخ، الذي يعيد نفسه، ولكن البشر لا يفقهون، لم يتعلموا منه كما يجب، فيضطر التاريخ لاعادة الدرس مرات. لعل الخائن يتعظ، فما زال أحفاد خنفس باشا، يتكاسرون ويتبجحون ولا يتعظون.