الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وحي العقل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تلك المشكلة القديمة التي يعاد ظهورها كل فترة أو ردحًا من الزمن. إنها مشكلة مستمرة بغرض التنافس ما بين العلمانية والأصولية، ولكن على الرغم من أنها قد تبدو لأول وهلة على أنها نزاع ما بين شخصين؛ إلا أنها في بعض الأحيان تكون نتيجة نزاع داخلي لنفس الشخص حول ماهية الحقيقة. كان ولابد من تلك المقدمة التي قد تبدو فلسفية في الأغلب لطرح المشكلة باتجاه جديد، المشكلة المتمثلة في الحقيقة المطلقة، كيف يمكن الوصول إليها وكيف تحول ذلك لصراع اتخذ من الطور الإيدولوجي مسرحًا لصراع ميداني عنفوي! 
ولكي يتسنى لنا قراءة الموضوع بشكل دقيق يجب أولًا شرح ماهيه نظرية الحقيقتين وتتبع تطورها حتى الآن، ولكننا سنبدأ في إطار الفكر الإسلامي وتأثيراته اللاحقة على غيره، فما هي نظرية الحقيقتين؟ إنها تلك النظرية التي قال بها ابن رشد في كتابه الشهير "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" عن تعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، ولا نغفل هنا الاتجاة الصوفي الذي يخذ منهج آخر مغاير ليفرض بذاته منهج ثالث للحقيقة ولكنه ذو أبعاد وسياقات أخرى منفصلة عن موضوعنا الحالي، المتمثل فيما بين العقل والنقل. 
فنظرية الحقيقتين كما يوضحها ابن رشد هي احتمال تعارض العقل مع النقل وإيجاب فرض سلطة العقل لما له القدرة على تفسير المنقول ليلائم الواقع، وأحيانا أخرى تعطيل المنقول بما أنه نص ثابت له أبعاد أخرى ودلالات أخرى ربما قد تكون أولت بما يغاير معناها، ولكنه في اعتماده على نظرية العقل قد تغافل عما للمنقول في بيان إعلاء سلطة العقل وإكمال المنقول بالعقل بحسب النصوص النبوية، وهو أمر قد يتبناه بعض الفرق العرفانية في إطار الثقافة الإسلامية. وليست هذه دعوى لدمج المنهج العرفاني للحقيقة العقلية، بل محاولة توضيح بأن المنقول قد توقف منذ قرون عديدة لبيان قدرة العقل على التفكير واتخاذ القرار من خارج السياق النقلي، إلا وإن كانت هناك حكمة أخرى يراها البعض دون البوح بها، أو أنها لم تتراءى بعد لأحد حتى الآن.. 
فبعيدًا عن منطق الاحتمالات الذي يتشعب من جذر واحد، وهو الحقيقة لفروع عديدة كلها مبناة على نفس الأصل، ولكنها تختلف في اتجاهاتها المنهجية فقط. قد يراها البعض أشبه بمناهج التفسير للنص، أو تتشابه معه في بعض النقاط. استكمالًا للموضوع، فإن العقل هنا المقصود به العقل المشاع في الثقافة وليس بالمعنى الميتافيزيقي، وقد يرى البعض بان ذلك، وإن أشار إلى لعنوان المقال إلا أنه يشير بحتمية تحول المقال من موضوع للبناء لمحاولة للهدم، حيث بيجب توضيح أن العقل هنا هو من يوحي وليس العقل بمعناه الفلسفي أو الميتافيزيقي. 
ويجدر بالإشارة إلى أن هناك العديد من النصوص النبوية التي تشير إلى بيان أن للعقل القدرة على التفكير داخل إطار الوحي بما أنه منه وإليه، ولكن تلك النصوص تم إهمالها بدواعي سياسية لعدم خلق عقل جمعي فعال قادر على النقد والتحليل والمعارضة بأي شكل من الأشكال، وذلك لترسيخ مبدأ الوحيدة والسلطة المطلقة للسياسي المؤيد بدعوى دينية. 
تلك الفكرة الرشدية كانت لها سوابق في الثقافة الإسلامية المتمثلة في أحد المذاهب العقلانية، كالمعتزلة، ولكن تم نبذها من قبل السلطة، للدعاوى التي أشرنا لها منذ قليل. وان كان ابن رشد قد اتخذ تلك الافكار كتأسيس لأفكاره – على الرغم من إقراره بعدم إطلاعه على كتب المعتزلة وإن كنت أشك في ذلك – فأن ذلك المنهج قد تأسس ولكنه اختفى بدعوى سياسية، وقد يختلف البعض حول كلمة اختفاء لما تأثر به المنهج الأشعري في وجود الروح الاعتزالية؛ فالأشعري كان في بداية حياته معتزليًا، وهي دعوى قد لا تكون صحيحة تمامًا أو فاسدة تمامًا، بل يجب دراستها أكاديميًا لوقوف على صحتها، وبيان نسبة وجود الفكر الإعتزالي في الفكر الأشعري. 
وللأسف على الرغم من ضم الثقافة الإسلامية لأديان أخرى إبراهيمية، متمثلة في أسلوب التأثير والتأثر، فكانت تلك الأفكار تتداخل وتتطور في الحقل اللاهوتي المتمثل في أحد أهم علماء وفلاسفة المسيحية توما الأكويني، الذي وإن كان قد أسهم في نشر تلك النظريات في الحقل اللاهوتي وحاول تطويرها، ولكن قام بذلك من داخل الثقافة الدينية لمحاولة تطويع النظرية لخدمة المنقول أيضًا، وهذا لا يلغي إسهامه، ولكن ذلك الإسهام تحول أيضًا لمحاولة تقويض العقل بدلًا من تحريره! 
تلك هي بعض بدايات محاولة تحرير العقل وجعله أحد الأطراف الحقيقية بدلًا من وجوده كأله تنفذ المنقول، وتستمر من داخل إطار الثقافة لكشف فساد العقل الذي هو بذاته أصل بداخل الحقل الديني، وللأسف يتم طرح كهذه مفارقات تمر على العوام مرور الكرام في إطار أدبي وشعري ونثري لتأصيل تلك الفكرة؛ التي هي في أساسها منبثقة من داخل الثقافة الإسلامية، لنجد الفكر العلماني يتحول بنظره للغرب بدلًا في تجاهل تام للتراث العلمي المؤسس، واستجلاب الأفكار الغربية كأفكار أصيلة في محاولة لتبني مجتمعاتنا لتلك الأفكار! وعلى النقيض يحاول الفكر الاصولي رفض تلك الافكار وأحيانًا بيان تأسيسها في الثقافة الإسلامية ولكن في طور الهدم؛ كمنوذج مرفوض من داخل الحقل الديني! حتى وإن كان ذلك يعني تشوية لمفكرين إسلاميين يعترف الغرب بهم بأنهم أساس الحضارة العربية والإسلامية! لذا فأي سلطة دينية كانت أو سياسية قد تجد ان للعقل القدرة على فرض سلطته المتمثلة في النقد والتحليل والاعتراض، فأنها ستحاول بسلطتها المؤسسية الهجوم على العقل بالعديد من الحجج؛ التي وإن كانت تبدو منطقية للعوام ولكنها لا يتغافل عنها المثقفون.