الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تأملات النخلة.. زوسر والبطاطا وظن جدتي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
زوسر.. لطالما توقفت أمام أسماء الفراعنة.. كنت أدرك أنها ليست كتلك الأسماء التي ندونها في وثائق الميلاد والوفاة وتعج بها أرفف السجلات المدنية.. كنت على يقين بأن هذه الأسماء عابرة لحدود الموت.. تنتقل معهم ككل أشيائهم إلى الحياة الأخرى كاسم واحد علم دون أن يتبعه آخر وآخر للتمييز حتى بتنا نتخطى الاسم الرباعي لاستخراج قيد عائلي.
أحمس.. أمنحتب.. تحتمس.. خوفو زوسر.. حتشبسوت.. نفرتيتي.. كليوباترا.
تخطت فكرة الاسم كونه كلمة تدل على معنى في نفسها إلى مجمع لمعان وصفات ومدلولات بعضها دينية وأخرى دنيوية.
أسماء تشعر لدى نطق أحرفها بمعناها وكأنها لم تكن تجميعة بعض الأحرف ولكنها كتلك الأهرامات والمعابد التي شيدوها..

أترى كنت محقا فهناك دراسات كثيرة تناولت تلك الأسماء وحدها كأثر قيل فيه: أن هناك أسماء معقدة جدا تبدو كإعجاز مثل بعض مدلولات السور في الكتب السماوية التي اختلفت فيها التفسيرات.

حينما كنا صغار نتبارى في اختراع ألعاب غير نمطية كان أقراني يعاودون تكرار النكات والفوازير التي كنا نجمعها من على مصاطب القرية.. لم تكن هناك نوافذ نجدد بها ضحكاتنا وألعابنا.. فكنا ننتظر ساعي البريد ربما كانت في خطاباته نكتة جديدة أو حكاية من قرى ومدن أخرى كنا نراها بعيدة.
بجوار الفرن البلدي وجدت كتابا عن الفراعنة كان خالي قد نسيه ووضعتها جدتي كمؤنة لإشعال نيران الفرن.
أخذت الكتاب لم أفهم منه شيئا ظننته كتاب سحر إذ أن حكايات العفاريت كانت هي الترند آنذاك.. كانت أكثر المشاهدات لأبو رجل مسلوخة والجنية وغيرها من الأسماء التي حاول أهالي القرية تغييرها لينالوا حظا من الشهرة.

جدتي كانت تحسب صور الفراعنة على الغلاف وفي الصفحات جماجم يستخدمها المشعوذون للسحر فلم يكن وصل بعد للقرويين فكرة التنقيب عن الآثار.
وكنا صغار لم نجد إجابة وافية عن تلك الصورة للأهرامات على العملة المعدنية التي تقع في أيدينا بالصدفة.. كانت لغة التعامل معروفة لدى دكاكين القرية.. كوز ذرة مقابل سردينة أو قرطاس شاي أو سكر أو بطاطا.
وأنا أنفخ في قطعة البطاطا فتحت الكتاب.. كنت أخذته وتواريت خلف نخلة في الخلاء خلف الدار.
تهجيت الأحرف كان الحاضر الأول في هذا الكتاب هو الملك زوسر.. مصطلحات غريبة ونقوش كثيرة تخطيتها على وعد أن أعود إليها حينما أكبر هكذا قلت لنفسي حينها،
ضحكت حينما رأيت عبارة أنه بنى مصطبة.. ظننته كتلك التي في حوش دارنا وفي القرية.. شعرت أنه فك تشابك يديه وصفعني على خدي.. ارتعدت ووقفت استكمل القراءة بصوت مرتفع:

قلبي كان في ضيق مؤلم، لأن النيل لم يفض لسبع سنوات. الحبوب لم تكن وفيرة، البذور جفت، كل شيء كان يملكه الفرد ليأكله كان بكميات مثيرة للشفقة، كل شخص حرم حصاده. لا يمكن لأي شخص أن يمشي أكثر؛ قلوب كبار السنّ كانت حزينة وسيقانهم انحنت متى جلسوا على الأرض، وأيديهم أخفت بعيدا. حتى خدم المعابد كانوا يذهبون، المعابد أغلقت والملاجئ غطّيت بالغبار. باختصار، كلّ شيء في الوجود أصيب. 

أنا سأجعل النيل يرتفع لك. لن يكون هناك سنوات أكثر عندما يخفق الغمر في تغطية أي منطقة من الأرض. الزهور ستورق، وتنحني جذوعها تحت وزن غبار الطلع.
كانت تلك رسالة زوسر لختوم معبود الشلال ورده.
نادت جدتي على فأخفيت الكتاب في حفرة عمقها كان بحجم كفى.. وكانت تزيد عمقا كلما اختليت مع الكتاب.
ماتت جدتي وماتت معها أشياء كثيرة، حتى أنني ظننت أن شغف المعرفة يحتاج لمطاردة ليزيد.. يحتاج لاستفهام واستنكار ليطغى.. أو ربما يحتاج لجلسة فوتوسيشن لنعاود البحث عن زوسر الذي مد يده هذه المرة لا ليصفعني وحدي ولكن ليصفع مجتمع بات مثلي لا يفرق بين مصاطب الفراعنة ومصاطب المزاح.. بين حكايات الملوك وحكايات العفاريت.. كنا ننتظر نكات ساعي البريد والآن نحن ننتجها بغزارة حتى طالت السخرية جباه آبائنا وأجدادنا وأمهاتنا فبتنا لا نفرق بين المقبول واللامعقول.