يعود شبح التوترات ليجتاح المنطقة بعد مقتل العالم محسن فخري زاده الذي أسس البرنامج النووي العسكري الإيراني في أوائل العقد الأول من القرن الحالي الحادي والعشرين.
وتشير أصابع اتهام داخل إيران وخارجها إلى تورط إسرائيل التي لم يصدر عنها أي تعليق بهذا الشأن. وليست هذه المرة الأولى التي تُوجه أصابع الاتهام لإسرائيل في قتل علماء ذرة، حيث سبق تصفية العديد من العلماء العراقيين والمصريين والإيرانيين بنفس الطريقة على امتداد العقود الماضية وكانت إسرائيل المتهم الأول في تلك الجرائم. وتستند الشكوك حول إسرائيل هذه المرة في تصفية العالم الإيراني في ضوء الانتقادات المستمرة من قبل دولة الاحتلال لبرنامج طهران النووي على الرغم من أن وكالة الاستخبارات الأمريكية والمفتشين التابعين للأمم المتحدة يؤكدون أن البرنامج النووي العسكري الذي أشرف عليه فخري زاده تم حله عام 2003.
وهناك آراء أخرى لمراقبين متخصصين في الشأن الإيراني تشير إلى تورط أمريكي مع إسرائيل وإعطائها الضوء الأخضر لاغتيال العالم الإيراني، حيث يسعى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب إلى استدراج نظام طهران لحرب شاملة في الأيام الأخيرة من فترة رئاسته بالتعاون مع حليفته إسرائيل ليقترب بذلك ثأر ترامب من إيران والذي دام أربع سنوات من ذروته ويكون اغتيال أبرز عالم نووي بمثابة الشرارة التي تسبق اندلاع حرب شاملة في المنطقة.
ولكن ماذا يعني هذا التصعيد بالنسبة لمصر ودول الشرق الأوسط جميعها التي عانت لأكثر من ثلاث عقود من جراء تداعيات حرب الخليج الأولى والثانية ثم احتلال العراق وثورات الربيع العربي في وقت كانت تطمح شعوبها إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة تتزامن مع الإصلاحات الاقتصادية التي يتم تنفيذها آنذاك؟
لفهم هذه التطورات وإلى أين تتجه طبول الحرب وما يتعين علينا إعداده من سيناريوهات استباقية لا بد من قراءة الوضع الداخلي والخارجي الأمريكي وتوازنات القوى في المنطقة.
المتابع للقرارات الأخيرة الصادرة من البنتاجون يلاحظ أنها توحي بعدم الرغبة في الدخول في أي تصعيد خارجي جديد يستوجب تحريك القوات خاصة بعد الاستبشار خيرا بعودة الجنود الأمريكيين تدريجيا إلى ديارهم مع إعلان البنتاجون خفض القوات الأمريكية في أفغانستان إلى النصف - أي إلى 2500 - وخفض القوات في العراق بنفس القدر بحلول منتصف يناير موعد تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وذلك بعد نحو عقدين مثقلين بالخسائر والأخطاء الإستراتيجية الفادحة، ناهيك عن خسائر في الأرواح خلال الحربين قدرت بنحو 7 آلاف قتيل و50 ألف جريح وكلفت الخزينة الأمريكية عدة تريليونات من الدولارات. يضاف إلى ذلك موت مئات الآلاف من العرب والمسلمين ودفع ثمن باهظ لتلك الحرب من أحلام وطموحات شعوب المنطقة التي غرقت في المزيد من الفوضى والفقر والجهل، ولكن الثمن دفعته أيضا الديمقراطية الأمريكية المزعومة من سمعتها بعد فشلها فشلا ذريعا في إبعاد طالبان وتمكين الجيش الأفغاني وقوات الأمن من القضاء على الإرهاب رغم وجود 100 ألف أمريكي يقاتلون إلى جانبهم.
كما انكشفت كذبة الحرب التي شنها جورج دبليو بوش لاحتلال العراق عام 2003 وإزالة التهديد المزعوم من صدام حسين ونزع أسلحة الدمار الشامل التي اكتشف العالم كله أن بغداد لا تملكها.
ومع الانشغال الأمريكي في حربي أفغانستان والعراق، تلاه بشن هجمات في ليبيا ضد القذافي في الأيام الأولى لانتفاضة 17 فبراير، ثم التدخل في سوريا ضد بشار الأسد، كان العالم يتابع الصعود الصيني طوال عقدين بخطى ثابتة لتصبح بكين قوة عظمى إستراتيجية وعسكرية واقتصادية تنافس الولايات المتحدة التي توارت منهمكة في مشكلاتها.
وأصبحت منطقة الشرق الأوسط في المقابل أكثر تفككا وزادت مخاطر الإرهاب الذي يهدد دول وشعوب المنطقة وفي مقدمتها مصر التي تواجه تحديات على حدودها في ظل الانقسام داخل جارتها الذي أصبح واقعا مريرا بين غرب ليبيا وشرقها، والدمار الذي انتشر في سوريا وخلفته الحرب الأهلية من جهة والتدخل الأجنبي على كل لون من جهة أخرى، إلى جانب النفوذ الذي تتمتع به الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق والذي يفوق بكثير ما كان لإيران قبل وصول الأمريكيين لبغداد في عام 2003 وضربهم للجيش السوري. يضاف إلى ذلك كله التنظيمات الإرهابية التي اشتدت أنفاسها ولم يبق إلا مصر قوية عفية في المنطقة تحارب بعزيمة من حديد لصد هجماتها وإسقاط مؤامراتها.
وهكذا وبينما تلوح في الأفق نهاية أطول الحروب والتدخلات العسكرية الأمريكية تقرع طبول حرب جديدة على الأبواب ضد إيران وما تنطوي عليه من مخاطر نشر الفوضى وعدم الاستقرار في الخليج العربي وليكون ساحة جاهزة أيضا لترتع فيها التنظيمات الإرهابية من جديد.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن اجتماع في المكتب البيضاوي مع دائرته الداخلية للأمن القومي لمناقشة هجوم على منشأة تخصيب اليورانيوم الإيرانية في نطنز. وكان لا بد من إقناع ترامب وفقا لما ذكرته الصحيفة بعدم إصدار الأمر بالهجوم حيث أكد له فريقه المكون من نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير الدفاع بالوكالة كريس ميلر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي..أكدوا له أن شن هجوم على نطنز يبدو غير مبرر في ضوء خضوع المنشأة للتفتيش الدوري للأمم المتحدة وعدم قيامها بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى الـ 90٪ المطلوب لصنع قنبلة نووية.. فحتى يومنا هذا تقوم المنشأة بتخصيب اليورانيوم بنسبة 4.5٪ فقط وهو مخزون صغير منخفض التخصيب لا يبرر إعلان حرب جديدة مع دولة كبيرة ذات كثافة سكانية وأقوى من أي دولة تدخلت فيها الولايات المتحدة في السنوات الـ 20 الماضية مما قد يعرض المصالح الأمريكية لمخاطر لا طاقة لها بها.
وتؤكد الصحيفة أن قرار الهجوم لم يُحسم أمره بعد وأن ترامب مصرَ فيما يبدو على المضي قدما لإعلان الحرب ضد إيران متفاخرا بحليفته إسرائيل التي اغتالت العالم النووي الإيراني وشنت ضربات في سوريا على الميليشيات المدعومة من إيران. لذلك، يرجح المراقبون أن يجد جو بايدن نفسه خلال أيامه الأولى في منصبه أمام مجموعة من أزمات السياسة الخارجية بداية من تصاعد الأزمة مع إيران وانتهاء باحتمال انهيار النظام الأفغاني المحاصر حاليا في كابول بعد هجوم تنظيم القاعدة بالصواريخ على المنطقة الخضراء التي بها العديد من السفارات وأسفر عن مقتل وإصابة العشرات. ولعل نتيجة هذه الحرب في كابول قد تعيد للذاكرة سيناريو ما حدث في سايغون عام 1975 بعد عامين من إنهاء الأمريكيين لدورهم في حرب فيتنام.
وما يشاع حاليا في دوائر صنع القرار الأمريكية ومراكز التفكير "ثينك تانكس" أن ترامب يحاول من خلال هذا التصعيد هنا وهناك أن يغرق خليفته في بحر الأزمات مع انهيار حليفه في كابول وعودة شوكة إرهابيي القاعدة؛ كما أنه يقطع الطريق أمام بايدن لإحياء لاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 الذي تخلى عنه ترامب في 2018.
وبدورها، تعزف إسرائيل نفس اللحن المميز لترامب وقد هب رئيس وزرائها "طبال الحروب" بنيامين نتنياهو لمنع بايدن من الانضمام للاتفاق النووي الإيراني حيث بعث برسالة واضحة إلى بايدن يحذره فيها من العودة إلى الاتفاقية النووية السابقة مشددا على ضرورة الالتزام بسياسة "لا هوادة فيها لضمان عدم تطوير إيران أسلحة نووية". كما أن آمال بايدن بتهدئة الوضع الإقليمي يمكن أن يتم نسفها على يد الإيرانيين أنفسهم إذا ردوا على عملية اغتيال فخري زاده ونفذوا تهديد المرشد الأعلى آية الله على خامنئي.
كيف سيتعامل بايدن مع الهجمات الإسرائيلية المنتظمة الآن على إيران والميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق ولبنان؟ وماذا سيفعل بايدن إذا ردت إيران بهجمات على إسرائيل أو على مصالح أمريكية وإسرائيلية؟ وكيف تخرج قوات الجيش الأمريكي من هذه الصراعات اللامتناهية دون أن تفقد نفوذها التقليدي في هذه المناطق؟ وكيف يمكن أن تتحول محطات ضخ النفط في هذه المنطقة الإستراتيجية إلى أهداف عسكرية في مرمى النيران الإيرانية؟!
تلك الأسئلة لم تعد في دوائر صنع القرار الأمريكي من قبيل الترف السياسي أو البحث الأكاديمي ولكنها محاولة لصياغة واقع جديد قد تكون الحرب مع إيران المفاجأة الثقيلة فيه التي يرثها بايدن وعليه خوضها أو السعي لإنهائها. ولعل ما سيحدث بعد الآن أمر مصيري في الشرق الأوسط بكاملة ويعتمد بشكل كبير على مدى كبح جماح الغضب والرغبة في الانتقام من قبل إيران، والابتعاد عن المقامرة السياسية من قبل الجانب الأمريكي وحلفائه في المنطقة. أما ترامب فإنه متأهب للانقضاض وإشعال فتيل حرب تجعل من خروجه بعد فشل مرير في الفوز بولاية ثانية أمرًا مغريًا له.
olfa@aucegypt.edu