تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
عرضنا في المقالين السابقين ضرورة أن يكون للجامعات الأهلية دور فاعل في تطوير وتحديث منظومة التعليم العالي المصرية، وأن تقدم نموذجًا عصريًا يمكن أن تستفيد منه الجامعات الحكومية. وفي هذا المقال نناقش بموضوعية أحد أكثر الموضوعات الخلافية، ليس فقط في مصر ولكن في العديد من الدول وهو؛ هل يحق للجامعات فرض رسوم دراسية على الطلاب مقابل التعليم الجامعي؟
وفي البداية أود أن أنوه أنني وكل أبناء جيلي قد تعلمنا في المدارس الحكومية والجامعات الحكومية المجانية. وأنا شخصيا من أكثر المعجبين بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر وتجربته الفريدة في بناء مصر الحديثة، وفي إتاحة التعليم المجاني للمصريين. ولكن يجب أن نعترف أن الزمن قد تغير، وان ما كان مناسبا في حقبة الستينيات لم يعد مناسبا اليوم. ولذا فيجب أن نناقش بهدوء حاجة الجامعات الحكومية إلى الدعم المالي، وأنه يستحيل على الدولة (في ظل الظروف الحالية) أن تخصص الأموال التي تحقق تعليما عصريا للطلاب، ودخلا مناسبا لأعضاء هيئة التدريس. ولكي أكون محددا سوف أعرض تجربتين لفرض رسوم دراسية على طلاب الجامعات، تجربة مارجريت تاتشر في إنجلترا وتجربة البرامج المتميزة في الجامعات المصرية.
أولا: تجربة مارجريت تاتشر في إنجلترا
تولت تاتشر رئاسة الوزراء البريطانية في العام ١٩٧٩ في ظل أزمة مالية طاحنة وركود اقتصادى، وعجز مالي جعلها غير قادرة على الاستمرار في اتباع السياسات الاشتراكية في التعليم والصحة والخدمات التي تبناها سابقوها في حزب المحافظين. اتخذت تاتشر عددًا من الإجراءات الرأسمالية القاسية أهمها خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة وتقليل الدعم المخصص للتعليم والصحة، ومنها وقف دعم حليب الأطفال الذي كانت تقدمه المدارس مما أطلق عليها لقب "تاتشر خاطفة ألبان الأطفال".
اللافت للنظر أن الإجراءات التى اتخذتها تاتشر قد نجحت في تحسين الاقتصاد وفي انتخابها، بل وامتدت تجربة تاتشر إلى الكثير من الدول الأخري، منها أمريكا وعدة دول أوروبية.
اليوم وبعد عدة عقود، يدفع الطالب الإنجليزي أكثر من ٩ آلاف جنيه إسترليني عن كل عام جامعي. بالطبع هناك منح دراسية للطلاب المتفوقين، وهناك قروض من البنوك (بدون فوائد) للطلاب غير القادرين، تسدد على أجل طويل وبعد أن يصل الدخل إلى الحد الذي يضمن الحياة الكريمة.
اليوم وبعد مرور أكثر من ٣٠ سنة على ترك تاتشر رئاسة الحكومة في سنة ١٩٩٠، تظل تجربة تاتشر وجملتها التي أطلقتها في بداية حكمها "لايمكن أن نسمح لجامعاتنا التخلف عن مواكبة التطوير ولابد أن يساهم الطلاب في تكلفة دراستهم الجامعية" هي المحرك للأحداث في معظم جامعات العالم.
ثانيًا: تجربة البرامج المتميزة في الجامعات الحكومية المصرية،
حاول الدكتور هاني هلال إدخال نوع من التعليم الموازي بمصروفات داخل الجامعات الحكومية المصرية سنة ٢٠٠٥، وكان لنا في المنصورة تجربة فريدة في الاتفاق مع جامعة مانشستر لإنشاء برنامج المنصورة مانشستر للتعليم الطبي. البرنامج لاقي عند إنشائه معارضة ضارية، ورفض من نقابة الأطباء وحملة تشويه ممنهجة، وبرغم كل ذلك نجح البرنامج في تقديم طريقة تعليم طبي حديثة ومتطورة واجتذاب سمعة طيبة داخل وخارج مصر. اليوم وبعد قرابة ١٥ عامًا من بداية البرنامج، أصبح أحد أهم التجارب الناجحة على المستوى الدولي في الشراكة الدولية في إنشاء برامج تعليم طبي. وأصبح العائد المادي الذي يحققه البرنامج أحد أهم مصادر الدخل لكلية الطب ولجامعة المنصورة. وتم تخصيص معظم دخل البرنامج لخدمة العملية التعليمية داخل طب المنصورة وتحديث البنية التحتية وطرق التدريس والتقويم للبرنامج الأساسي.
الأمثلة التي ذكرناها وبينا فيها المزايا التي أمكن تحقيقها من تحصيل رسوم دراسية (معقولة) على التعليم العالي، لايمكن أن تغفل أن هناك عدم مساواة وظلمًا للطلاب غير القادرين. هذه المقالات تعرض وجهة نظر شخصية تراعي ظروف مصر الحالية، وليست بأي حال من الأحوال دعوة لفرض رسوم دراسية على الطلاب في الجامعات الحكومية الأساسية، والتي يتعلم بها أكثر من ٩٠٪ من أبناء المصريين. وفي نهاية هذه السلسلة من المقالات، أتمني أن أكون قد أظهرت وجهة نظر معتدلة، وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يوفق القائمين على إدارة الجامعات الأهلية الجديدة لتكون قاطرة للتحديث والتطوير للجامعات الحكومية، ومنافسًا قويًا للجامعات الدولية والخاصة، وأن يكون التعليم هو مشروع مصر القومي للأعوام المقبلة.