دعني عزيزي القارئ أدعوك للخروج من كل تفاصيلك. للسماح ليد أخرى لا تعرفها بترتيب أفكارك. لأن تتشارك ما تريد قوله مع من يقوله ولا يريد قوله؛ لأن تفاتح ليل الخريف الدافئ الرطب بقمر جديد لا تملكه أنت. لأن تستعير بعض الحكايات من آخرين كي ترتب أولويات حكاياتك. إن هذا ما يحدث بكل بساطة حين نستمع لحكايات أخرى من آخرين لا نعرفهم. ليس لدينا أحكام مسبقة عنهم وعن أحداث حياتهم التي تمر بهم. لذا يمكن لهؤلاء بقصصهم أن يتدفقوا في شرايين حياتك بسلاسة وهدوء ودون معارضة. ويمكن أن تجد فيما فعلوا ما يجب أن تفعل أنت دون أن تعرفهم أو يعرفوك. قصص شاعرية.. حادة.. قوية.. حنونة.. شقية.. بتاء التأنيث.. بجمع المذكر السالم.. قصص تخبرك أن الحياة قرارات هادئة. وقصتنا لامرأة بدأت حكايتها الأسبوع الماضي وتكمل تفاصيل ملاحقة مجنون لها، تحكي وتقول:
في اليوم التالى لم أجد رغبة في الذهاب للعمل.. أردت أن أرتاح من المراقبة.. وكنت أكيدة أنه سيتابعها على طريقته.. وبالفعل وصلتنى SMS بنكهة نزار:
ما لعينيكِ على الأرض بديلْ
كلُّ حبٍّ غيرُ حبِّي لكِ، حبٌّ مستحيلْ
فلماذا أنتِ، يا سيدتي، باردةٌ !!
حين لا يفصلني عنكِ سوى
هضبتيْ رملٍ... وبُسْتَانَيْ نخيلْ
ولماذا تلمسينَ الخيلَ إن
كنتِ تخافين الصهيلْ!!
ورأيت أن الرجل قد أصابه الملل لدرجة أنه بدأ يسبنى بطريقة نزار المهذبة والجارحة في ذات الوقت، فربما استفزنى الأمر لأرد عليه.. وكنت قد بلغت حدًا من الضجر منه يكفى كى أرسل له ردًا غير لائق.. لكننى فكرت مليًا ووجدت أن تجاهله خير عقاب له.. فهو هباء.. وما يفعله من العشق خلف الجدران جبن محض.. أنا أكره الجبناء.. لم تمض ساعتين حتى حمله الشعور بالذنب للرد على نفسه معتذرًا لى أيضًا بطريقة نزار:
أما زلتِ غضبى؟
إذن سامحيني..
فأنتِ حبيبةُ قلبي على أي حال..
سأفرضً أني تصرفتُ مثل جميع الرجال
ببعض الخشونهْ..
وبعض الغرورْ..
فهل ذاك يكفي لقطع جميع الجسورْ!!
أى جسور تلك التى يتوهمها ذلك المجنون؟! أنا لا أعرفه أصلًا.. أغلقت هاتفى لبقية اليوم.. فهو إجازة من الجنون..
وفى اليوم التالى حدث ما جعلنى أعشق محمود درويش فوق عشقى له.. حين تركت حقيبتى للحظات على كتف الأريكة في استراحة الغداء.. ذهبت لإحضار كوب قهوة من ماكينة القهوة الساكنة قُبالة الأريكة.. ورأيته.. بطاقة جديدة.. ذهبت مسرعة إليه.. قلت في عصبية: (انت بقا اللى عامللى الازعاج ده كله طول الفترة اللى فاتت؟!) بدا متلعثمًا لدرجة أنه لم يجتمع على لسانه كلمة واحدة واضحة.. كان شابًا يقطن في شقة أعلى مقر عملى.. أعرفه شكلًا فقط من لقاءات متكررة في المصعد لتوافق مواعيد عملينا ذهابًا وعودة على ما أظن.. والبطاقة الأخيرة لدرويش (عيونكِ شوكةٌ في القلب.. تُوجِعُني.. وأعبُدُها).. قلت له: (طيب.. انت أساسًا هتشوف وجع هينسيك الوجع اللى شفتو طول حياتك) قال متوسلًا (يعنى بعد كل ده مش عارفة انه غصب عنى فعلًا بابعتلك.. أنا مش بهزر.. ده حقيقى).. بدا متألمًا حقًا.. وربما أعجبتنى لعبة السيطرة.. صمتت قليلًا ثم قلت مفتعلة العصبية: (كنت جبان أوى لدرجة ضايقتنى.. اللى بيعمل حاجة حقيقية مش بيخبيها أو بيستخبى وراها.. اعمل حاجة واحدة تكون شجاع فيها).. جثى على ركبتيه فورًا.. وقال بصوت عال قوى.. وكأنه تحول لشخص آخر غير ذلك الجبان المهتز النبرات: (بحبك.. عايز فرصة.. نشرب القهوة مع بعض حتى مرة واحدة.. بحبك).. ربما يظن البعض أن ما يفعله فضيحة.. لكننى أراه يفعل ما يحرجه لأجل الإبقاء على.. يغير قوانينه من أجلى.. طبعا انصرفت دون أن أعطيه إجابة.. وتركته جاثيًا على ركبتيه في يأس.. فلا المكان ولا الزمان يسمحان بأمور خاصة كتلك.. لكننى مساء قبلت موعدًا معه في نهاية اتصال هاتفى طويل.. بعد أن أغلقت الخط سمعت صوت جبران في رأسى (لا أريد شيئًا.. وأريد كل شيء )..