كانوا ثلاثة يزرعون الأرض بالمحبة وأمنيات العدالة الاجتماعية والتقدم .. ثلاثة فرسان من دمياط خرجوا بالمدينة الصناعية الملهمة إلى كل مراكز مصر الحيوية لنضرب بهم المثل ونحن في بداية حياتنا عن إمكانية وجود المثقف العضوي في بر مصر المحروسة.. ثلاثة حفظنا أسماءهم جيدا ونرددها في حوارتنا لنقاوم الإحباط ونتمسك بالأمل ونثق أن إنتصار العدالة قادم في وجه الفساد والاستعداد وأحلام الاشتراكية.
جمعة سلطان وعلي زاهران وأنيس البياع.
رحل جمعة مبكرا وتلاه زهران منذ سنوات وبقي انيس البياع نلتف حوله نتعلم منه قيمة تواصل الأجيال .. الآن رحل البياع وذهب الثلاثة إلى الخلود وانقطع الحبل وبقينا نحن على مفارق الطرق نبحث عن ملهم.. رحيل انيس البياع مؤلم لعارفي فضله.. الرجل الذي كان من الممكن له بناء حياة سهلة وعيشة رغدة في كنف الوظيفة ولكنه اختار الطريق الصعب طريق الدفاع عن العمال والمقهورين وأصحاب الحاجات طريق العدالة الاجتماعية وترسيخ الديمقراطية والمساواة ومواجهة أباطرة رأس المال.
خسرت دمياط وخسرت الحركة الإشتراكية واحدا من آبائها المخلصين وخسرنا نحن الملجأ الذي طالما احتمينا به في لحظات التردد والضعف.. لذلك لم يكن سهلا أن أكتب فور علمي بوفاته لعدم استيعابي حقيقة خبر الرحيل.
لا يمكن أن ادعي انني زاملت انيس البياع كأعضاء في حزب التجمع ولكن الواقع هو أنني تتلمذت عن بعد في مدرسة روح انيس البياع الذي بدأ حياته شاعرا تقدميا حداثيا وخطفته السياسة ليقضي عمره كله متفانيا في إطار البرنامج واللائحة ولكن بروح الشاعر المرهف .. عشرات المواقف التي جمعتني معه يحسمها بابتسامة صافية لم تكن عينه على بناء دمياط التقدمية وحدها ولكنه اشتبك مع كل المواقع في عموم مصر وكان له عندنا في الإسماعيلية بصمات واضحة .. عندما كانت الأزمات تعصف بنا و يسود الخلاف في مجموعتنا التجمعية الصغيرة في الإسماعيلية كان البياع هو كلمة السر لتقريب وجهات النظر .. ومازالت صورته هو وصديقه الدكتور سمير فياض حاضرة في ذاكرتي بقوه.. منذ سنوات قليلة ربما 2008 تمت دعوة أطراف خلاف اسماعيلاوي ليبذل فياض والبياع جهدا استثنائيا لرأب الصدع امتد حتى منتصف الليل .. نفس المشهد قبل أكثر من عشرين عاما شهدت نفس المشهد البياع وصديقه جمعة سلطان يقطعان من وقتهما الثمين ليجلسا إلى شباب نزق بالساعات في الإسماعيلية لحسم خلاف .. هذه الصيغة التجميعية هي صلب روح فكرة حزب التجمع الذي عاش انيس البياع له ولم يحصد قبل رحيله التكريم اللائق.. وها نحن في وداعه نكتب ما تيسر من سطور المحبة ولكنه لن يقرأها لأنه غادر عاتبا علينا.
الشاعر والناقد انيس البياع والسياسي المخضرم والقائد الاشتراكي والخبير في مجال عمله بالشئون الاجتماعية .. هذا هو مثلث الاكتمال عند البياع الذي شهد الفرحة مرة وذاق المرارة مرات .. يخوض انتخابات البرلمان عن دمياط فنسرع إليه من مدينتنا التي تتشابه خواصها مع مدينة دمياط نهتف خلفه في المؤتمرات ونطارد التزوير الممنهج ومواجهة أباطرة الحزب الوطني .. تأتي نتائج الانتخابات مخالفة لقوانين الطبيعة ونعود منتصف الليل إلى الاسماعيليه بعضنا يغلبه النعاس ولكن بكاء البعض الآخر منا على خسارة البياع يطرد النوم لنفتح عيوننا على اتساعها بقدر اتساع احلام الاشتراكي المخلص انيس البياع.
سنوات طوال ربطت اسم البياع باسم اليسار وبالتحديد حزب التجمع الذي حاول البياع ذات مؤتمر أن ينتزع موافقة بتغيير اسم الحزب من التجمع الوطني التقدمي الوحدوي إلى حزب التجمع الاشتراكي فقط .. لم تفلح محاولة البياع ولكن يكفيه شرف المحاولة .. سنوات طوال يرتب الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات الصغيرة وكأنه مزارع يحرث الأرض للتغيير الكبير .. يتذكر الدمايطه وقفته ضد مصنع اجريوم الملوث للبيئة وكيف نقل البياع القضية من دمياط إلى القاهرة ليرتب وقفة احتجاجية على سلم التظاهر الأشهر سلم نقابة الصحفيين .. ويتذكر التجمعيون البياع وهو نائب رئيس الحزب كيف كان البياع وهو أكبرنا سنا هو أكثرنا حماسة واندفاعا وغضبا في كل مظاهرات التجمع ضد الغلاء ضد الفساد ضد التزوير .. ضد كل ما قبيح ومعطل لأحلام الناس.
رحمة الله على انيس البياع المثلث المكتمل عن حق وجدارة بقدر خبراته المهنية التي صعدت به إلى مواقع وظيفية مرموقة حتى وصل مديرا عاما للهلال الاحمر في دمياط وهذه هي قاعدة المثلث التي تميز مناضل عن غيره بقدر إسهامه في ضلعين آخرين تقاطعا في نقطة محددة .. ضلع السياسي من فصيلة نادرة وضلع الشاعر والناقد من فصيلة المثقف العضوي.
أستاذ أنيس وداعا وصادق العزاء لأسرته وتلامذته وعارفي فضله.