السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من الإسكندرية إلى رحلة البحث عن ذواتنا في باريس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رحل العلامة مصطفى صفوان في برد نوفمبر من هذا العام في باريس وهو على مشارف المائه عام من عمره وباريس على مشارف أزمة وجودية خانقة بسبب تسونامي ڤيروس كورونا اللعين الذي كشف المستور في حضارة الغرب التي تعتبر باريس نفسها عاصمة روحية وتنويرية له.
كم تحدثنا عن إعلام التنويريين المصريين والعرب في باريس منذ نهضة محمد على باشا وبعثاته إلى مشاريع الخديوي اسماعيل وبعثاته في مجالات الفكر والسياسة والطب والنقل. وبقي مجال علم النفس دون إعلام مصرية وعربية وكان العقل العربي عاجز عن الخوض في لجة بحره العميق ولعل العقل العربي لا يستوعب هذا العلم المعقد الباحث في النفس المعقدة. حتى اتي مصطفى صفوان من الإسكندرية في مطلع عام ١٩٤٦ ليجلس في المقاعد الأولي بالسوربون العريقة أمام عملاق التحليل النفسي لاكان ليصبح بعدها زميلا وصديقا للعالم الشهير فإذا ما فتح عيادته الأولي كان فحص مرضاه بحضور الأستاذ وتلاميذه.
ومن باب لاكان ولج مصطفى صفوان إلى عالم فرويد المتشابك وكان ولعه الاول باللغة كوسيله لسبر أغوار النفس. وكتابه الأشهر "الكلام أو الموت" الصادر عام ٢٠٠٣ مثير إثارة تجعل القارئ لا ينام لأنه هو نفسه عينة للتحليل وهو نفسه ظاهرة للدرس.
ومن هنا كان اعتماد مصطفى صفوان على الأبحاث الهائله في علم البنيوية وعلم اللغة في أوروبا على ايدي العملاقين دو سوسور السويسري وكلود ليڤي شتراوس الذي ربط بين هذين العلمين وعلوم الاجتماع وتاريخ الحضارات. خرج مصطفى صفوان من هذه المغامرة العلمية الكبرى بمجموعة من المؤلفات انتزعتها منه انتزاعا واحدة من أشهر دور النشر في باريس وهي دار Seuil لتنشرها تباعا.
ثم التفت مصطفى صفوان إلى عالمنا العربي وقد تجاوز الستين وكأنها عودة للجذور فيستخدم علمه الفذ المتعدد interdisciplinaire ليحلل ويفهم واقعنا العربي المرير فيكتب عام ٢٠٠٤،،" لماذا العرب ليسوا أحرارا" ثم "نحو عالم عربي متخلف" عام ٢٠١٧.
بري صفوان أن لغة العرب تخلفت عن ركب الحضارة الحديثة لأنهم تخلفوا عن وسائل البحث العلمي وانشغلوا بصفحات الماضي عن معامل ومعاهد البحث العلمي في الحاضر وانسحب ذلك حسب رأيه على الواقع السياسي فكتب كثيرا عن العلاقة بين اللغة والاستعداد وكتابه الأشهر "اللغة والموت، دراسة تحليلية" خير مثال على ذلك.
وكعاده علماء العرب في المهجر تكون الترجمة من والي العربية اخر جسر يبنيه على صفحات المتوسط الواصله بين شماله وجنوبه. فقد ترجم صفوان كتاب "تفسير الأحلام" لفرويد وكان سبب شهرته في العالم العربي كما ترجم كتب أخري كثيرة يمكن للقارئ أن يعود إليها على جوجل.
بوفاة مصطفى صفوان تكون مصر قد وضعت نقطة على اخر صفحة في اخر جيل التنوير. ربما يكون رحيل صفوان فرصة للعودة لاستكشاف عالمه وهي فرصة لاستكشاف عالمنا نحن في نفس الوقت. فإذا نجحنا في ذلك يمكن عندها القول إن شعاع صفوان آت الينا لامحالة مثله مثل الضوء الصادر من نجوم في أعماق المجرة يصل لكوكبنا بعد آلاف السنين يكون النجم نفسه قد تختفي من الوجود.