أن تحاول اختصار الزمن بالهروب من جحيم الحاضر للبحث عن مستقبلٍ أفضل، فتكتشف أن الباب الذي طرقته لا يؤدي بك في نهاية المطاف إلا لجحيم من نوع آخر.. ستدرك الأمر في نهايته، سيخدعك الضوء البعيد الخافت حتى تصل إليه، حينئذٍ لا سبيل للرجوع، وقتها فقط تعرف قيمة النعم التي كنت تتأففُ منها، قد لا تكون هي ذات النعم التي تبحث عنها، لكنك ستكتشف أنها كانت كافية جدًا لتعيش بها ما بقي لك من أنفْاس.
كانت كلماتها التي تسردها باللغة العامية كفيلة أن تلفت انتباهي، متشوقًا لمعرفة ما الذي تحاول أن تهرب منه وما الذي تسعى للوصول إليه، استطردت دعاء - اسم مستعار – حديثها: "أنا عارفة إن كلامي هيبقى بلدي ومش مترتب بس مش بعرف أذوق الكلام أنا هقول وإنت اكتب زي ما تحب، بس الأهم من إنك تكتب إنك تفهم".
المشهد الأول
في بلادنا.. أن تكون فقيرًا فهذا هو البؤس، أما أن تولد فقيرًا في عائلة – إن صح اللفظ – أربابُها أصحاب «كيف» فضلًا عن كونك أنثى، فلتترقب أيامًا لا شفقة فيها ولا رحمة، فقط مزيد من البؤس الذي لن ينتهي، الفقر قد يكون مقبولًا إذا وهبتك الحياة القوة على المواجهة والصبر والتحمل، ولكن إذا سلبتك «السند» قطعًا ستكون الأسوأ حظًا، وقد كنتُ أنا الأسوأ حظًا بين الجميع.
وُلِدت في أحد الأحياء العشوائية بالقاهرة، لم أُكمِل تعليمي بسبب عدم كفاية مصدر دخل والدي، المخدرات والخمور كانت تحظى بالنصيب الأكبر من دخله، لم أستطع الحصول على فرصة عمل تساعد في تحسين الحال، حاولت العمل في أحد المصانع، وكذلك محلات البقالة، على ماكينات الحياكة، والرحيل كان النهاية من جميعها والسبب واحد هو «التحرش».
كنت وقتها في الثامنة عشرة من العمر، منحني والدي وظيفة مجانية مدى الحياة.. «خادمة المنزل»، حياتي تمحورت داخل المطبخ الصغير وغرفتي الضيقة، وأي محاولة للخروج عن هذا المسار اليومي كانت تنتهي بالضرب والإهانة من رجل فقد وعيه، وأخ كما يقول المثل «هذا الشِبلُ من ذاك الأسد»، لم يختلف الاثنان كثيرًا عن بعضهما، أما عن أُمي فلم تكن تستطيع مواجهة أي منهما، ولم تستطع الوقوف بجانبي ولو مرة واحدة.
هل يُعاقب الإنسان على إثمٍ لم يقترفه؟ هم عاقبوني.. عاقبوني حد الموت، لم يعد في جسدي موضع إلا وعليه توقيعهم وبصماتهم.. كان سريري شاهدًا على بحر الدموع الذي لم يجف، حيطان غرفتي شاهدة، أرجل ذلك الكرسي الذي تهشم فوق ظهري شاهدة، وجميع الأحذية التي قذفوني بها.
كنت أمام أمرين لا ثالث لهما، إما الهرب أو الانتحار، ولكن سأختار الهرب فلن أهرب من الموت إلى موت آخر، جهزت في الخفاء قليلًا من أغراضي وعزمت الرحيل بلا عودة.
المشهد الثاني
تعرفت على خالد – اسم مستعار – منذ فترة قريبة عن طريق أحد وسائل التواصل الاجتماعي وبدون علم أهلي بالطبع، وكان يسكن في منطقة قريبة، حاول جذب انتباهي كثيرًا ولكن وسط ما أحياه لم يكن هناك ما يدعو لجذب الانتباه، قررت أن أشاركه لحظات ضعفي وانكساري، لعلي أجد عنده ما يواسيني به، أو يكون هو سبيلي للنجاة، وبدأت في ترتيب الأمر سعيًا مني للحصول على الحرية المنشودة.
كان التوقيت الأنسب هو الصباح الباكر، حيث أذهبت المخدرات عقل الجميع وباتوا في سُباتٍ عميق، بينما انتهزت أمي الفرصة كعادتها للحصول على قسط من الراحة في غيابهما، أما أنا فكنت على بُعدِ خطوات من السعادة، من الحرية، وكانت تكة المفتاح وأنا أحاول الخروج هي الأسعد بالنسبة لي، لم أفكر ماذا يتوجب علىَّ فعله بعد ذلك، وأيًا كان المستقبل الغامض ففي أتعس حالاته لن يكون مثل ما عشته لسنوات.
أغلقت الباب دون أسف ولا ندم ولا كلمة وداع، وكان خالد ينتظرني في المكان الذي اتفقنا عليه مسبقًا، لا أعلم إلى أين سأذهب ولم أفكر في الأمر، وفي كل الأحوال اللجوء لأي مكان أفضل من العودة إلى أب لم أذق معه يومًا معنى الكلمة.
للمرة الأولى تتصاعد أنفاسي، أحاول الحصول على أكبر كمية من الأكسجين، أعلن تمردي على العالم بتدخين السجائر وأصنع من دخاني صورة وهمية لوالدي وأخي، وبعد الحصول على نفس عميق اُطلِقً زَفْرَةً طويلة لأمحو صورتهما للأبد، لن أعتذر لأحد إلا لنفسي، الطريق طويل وها هي أولى خطواتي إليه.
وبينما أنا أطلق العنان لخيالي الجامح كان خالد بين أحضاني، لا أعلم كيف قبلت الذهاب معه لمنزله الذي يعيش فيه وحيدًا، ولا متى أعتلينا السرير ولا كيف وصلنا بالأساس إلى المنزل، أدركت وقتها أنه من أكبر الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حق نفسه، أن يبوح بأوجاعه ومعاناته لشخص آخر، لأنه سيتم استغلالها أسوأ استغلال، حاول أن يعيد إلىَّ الطمأنينة بإبداء رغبته الزواج ولكن سرًا، كانت هذه رغبتي منذ البداية سواء سرًا أو علنًا لا يهم، الأهم ألا أكون فريسة للطامعين، أن يكون لي «سند».. صدقني: الأمر يستحق حتى لو كان سرًا.
رفضت تكرار الأمر وطلبت من خالد أن أذهب لمكان آخر يمكنني فيه أن أشعر بالاطمئنان حتى نتزوج، وافق على طلبي لحين ترتيب أوضاعه وعقد الزواج.
توجهنا إلى منطقة قريبة تقطن بها سيدة يثق بها وتربطهما علاقة قرابة، شرح لها الوضع وطلب منها الاعتناء بي حتى العودة، لم يبدو عليها أن وجودي غير مرغوب فيه، ولكن عندما تطرقت للحديث عن عائلتها وأبنائها قررت ألا أُطيل المكوث، وبعد أيام جاء خالد وأخبرني أن السيدة اتفقت مع شقيقتها على ذهابي إليها، وهي وحيدة منذ وفاة زوجها ولن يكون لديها مانع في استضافتي.
المشهد الثالث
وصلنا إلى منزل شقيقتها ورحبت بي، وجدت ثلاث سيدات في المنزل، عرفتني عليهن بأنهن أقاربها وضيوفها لبضعة أيام، توجهت إلى غرفتي وبدأت ترتيب أغراضي التي استطعت الظفر بها.
كانت الأيام تمر بينما روحي تتآكل، شيءٌ ما بداخلي يرفض الصمت، وفي إحدى الليالي بينما أجلس في غرفتي سمعت على الجانب الآخر ضحكات وأصوات مريبة، ماذا الذي جاء بهؤلاء الرجال هنا؟ وبينما أحاول رفض الفكرة التي تحاصرني، ينفتح الباب المغلق عليَّ، دخلت صاحبة المنزل يتبعها رجل يتدلى بطنه أمامه، قامت بدعوتي للتعرف عليه، ضممت ساقي إلى رأسي وكتفت يديّ حولهما، اكتشفت الآن أنني محاطة بمجموعة من العاهرات وأصحاب المزاج.
حاولت التمنع والهروب، ولكنني فوجئت بسيل من الشتائم والضرب المُبرح، أيقنت وقتها أن آخر محاولة للهرب تلك التي استنفذتها، لم يكن هناك سبيل للنجاة من براثن الشيطان التي أوقعوني فيها رغمًا عني.
«جعلوني عاهرة» هذا هو التوصيف الذي يمكنني أن ألخص فيه المشهد، توالت الليالي وتعددت الهزائم.. في كل ليلة ومع كل هزيمة كانت ساقاي علامتي تنصيص تحتويان كل ليلة اقتباسٌ جديد بينهما، حاولت في كل المرات أن أضع النقطة لينتهي سطر من الألم والإثم، ولكنهم كانوا يجبرونني على استبدالها بالفاصلة لتستمر الاقتباسات.
في هذا التوقيت كان الجميع يبحث عني، بينما كنت أنا أبحث عن نفسي، وقررت أن أضع النقطة، لملمت أغراضي وقررت الرحيل مهما كان الثمن، والحقيقة أنه لا يوجد ثمن باهظ مثل الذي دفعته بالأمس، توجهوا جميعًا للنوم بعد معاركهم التي لا يعرف عنها أحد، تسللت عبر الباب، كان الظلام بالخارج مخيفًا، والأكثر خوفًا أن مدينتنا بها الكثير من طيور الظلام التي تنتظر فرائسها، ولكن لا مزيد من الخوف ومهما كان الأمر فهو ليس مخيفًا بالقدر الذي رأيت.
هناك لحظات تمر على الإنسان لا يكون قادرًا فيها على فعل شيء.. ترددت قبل أن أطرق الباب.. ابتعدت قليلًا وأنا أسمع صوت اقتراب الخطوات من خلف الباب الذي تمنيت ألا أعود إليه مجددًا، تقترب الخطوات من الداخل وتتسارع معها نبضات قلبي، تمنيت وقتها أن تنشق الأرض وتبتلعني، ولكن الله لا يقبل إلا دعوات الصالحين، لم أنتبه من تخيلاتي إلا وكف أبي يسقط على وجهي، وللمرة الأولى لم أشعر بالخوف كان شعورًا بالذنب الذي يستوجب العقاب، كان «شعورًا بالرِضا»، أيقنت أن قسوة الأهل مهما بلغت أرحم من قسوة الآخرين، أدركت أن ضريبة الحرية باهظة الثمن، عرفت أن ما نسعى إليه يمكننا الظفر به ولكن علينا اختيار الطريق الأنسب.
تغيرت المعاملة شيئًا فشيئًا، وصل أفراد عائلتي إلى خالد، لقنوه درسًا لن ينساه، أجبروه على توقيع عقد زواجه مني، ثم أجبروه على طلاقي، تقدموا بمحاضر للشرطة اتهموا فيها السيدة التي استضافتني بارتكاب أعمال منافية للآداب، لم أهتم هل تم القبض عليها أم لا، حياتي كانت تتغير للأفضل، أيقنت أن التغيير يأتي من داخلنا لا من الخارج، كنت أسعى نحو الأفضل حتى تغيرت حياتنا جميعًا.
- «لماذا لم يخلقني الله فراشة أينما تجد الرحيق تتخلى عن رغبتها في الطيران؟ تتخفى بين الزهور حين تشعر بالخطر، لا موطن لها إلا الذي تختاره، معاناتها الكبرى أن لا ينبت الزهر مجددًا».
- ولماذا الفراشة تحديدًا؟
- «شعور الحرية لا يضاهيه شعور»، أن تفعل ما تشاء في الوقت الذي تشاء هي النعمة التي حُرِمت منها.
رددت هذه العبارة وهي تهم بالرحيل.. يتهمني البعض بسعة الخيال، ولكن لم أكن أتخيل يومًا أن أسمع تلك الكلمات من فتاة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، بل لا أعتقد أن هناك مؤلف يستطيع كتابة سيناريو بهذه الحبكة الدرامية غير المتوقعة.. رحلت وتركتني في دوامة من الحيرة، ولكنها تركت بداخلي حالة من الرِضا لم أشعر بها من قبل، أيقنت آنذاك معني «التدابير الإلهية».
المشهد الثالث "مكرر"
انتهت قصة دعاء، ولكن المخاوف من وجود «دعاء» أخرى في مكان آخر لم تنتهي، في بلد وصلت نسبة الأمية فيه عام 2017 إلى 18.4 مليون نسمة بمعدل 25.4% بينهم 10.6 مليون من الإناث، وتراجعت النسبة عام 2019 إلى 24.6%، طبقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبحسب الجهاز أيضًا، نسبة 5% من الأميين في الفئة العمرية "10 - 34" التحقوا بالتعليم وتسربوا منه لأسباب مختلفة، منها الظروف المادية للأسرة بنسبة 27%، ناهيك عن آخر الأرقام الرسمية التي أعلنها الجهاز في نوفمبر 2019 بخصوص العنف ضد المرأة، حيث وصلت نسبة المصريات المعنفات من قِبل العائلة والبيئة المحيطة قبل بلوغ سن 18 عامًا إلى 1.5 %، بينما وصلت نسبة السيدات اللاتي تعرضن لعنف من قِبل أزواجهن إلى 34.1 %، بينما تشير العديد من الدراسات إلى تزايد العنف ضد المرأة بعد جائحة كورونا وتطبيق إجراءات الحجر المنزلي.
ومع اتجاه مصر لتنفيذ خطتها للتنمية المستدامة «مصر 2030»، والاهتمام بالتعليم ومحو الأمية كعامل أساسي للتنمية، والقضاء على جميع أنواع التمييز، يبقى أن تضع الدولة نصب أعينها هؤلاء الذين يجاهدون لتحسين أحوالهم المعيشية دون ضجيج، على أمل أن يكون هناك جيل قادر على بناء دولة، ليس فقط مجرد جيل يدور في حلقات متتالية بلا نهاية باحثًا عن ذاته في حياة لن تكون عادلة يومًا.