كانت هذه الكلمة محفورة على قطعة من النحاس ألبسها كقلادة على صدري أيام أن كنت طالبة بالثانوية العامة، إعلان مني للعالم، بحكم تفكيرى آنذاك، أننى كفتاة شابة وصغيرة مقبولة الشكل أتقبل لقب عانس وأرفض الزواج في سن صغيرة طالما كان ذلك هو اختياري.
كان سبب اقتنائى لهذه القلادة وقتها هو رفضي التام أن تُنعت أي فتاة أو امرأة بهذا اللقب لمجرد أنها اختارت بكامل إرادتها عدم الإقبال على قرار الزواج لأسباب نفسية أو ظروف اجتماعية، أو حتى ظروف قهرية أو قدرية لم تسمح بحدوث الزواج.
وعندما كنت أصعد إلى عربات المترو خاصة تلك المخصصة للسيدات كنت أرى علامات الاستفهام على وجوه البعض والدهشة على وجوه أخريات، وأحيانا كان البعض منهن خاصة من يتحلين بالشجاعة تسألنى مباشرة: "ليه يا بنتى لابسه القلادة دى؟، ده حتى فال وحش!!"، فيما تردد أخرى: "يا بنتى دانتى لسه صغيرة"؛ في إشارة إلى أن لقب عانس يطلق، في مجتمعاتنا العربية، على من تعدت سن الثلاثين بل إن هناك قرى في صعيد مصر إذا بلغت الفتاة عامها العشرين دون زواج يعتبرها البعض ممن "فاتهم القطر"، بالتعبير الشعبى الدارج.
ومرت الأيام ومعها سنوات الدراسة وفى كل مرحلة زمنية كان دائما ما يظهر شخص في حياتى يتقدم لوالدي طالبا خطبتي، هناك من كان يرتاح لهم قلبى وعقلى وتتم الخطبة على خير وهناك من كانت ترفضهم كل حواسى منذ اللحظة الأولى، تجارب عديدة مررت بها تعلمت منها الكثير وفي كل مرة كنت أطوى الصفحة لأسباب قد تكون، من وجهة نظرى وقناعتى الشخصية صحيحة تماما وفى نظر الطرف الآخر لا تمت للواقع بصلة، ولكني كنت أتخذ قرار الانفصال لا لشىء سوى أننى أبحث عن شريك أكمل معه حياتى، شريك يحتوينى، يفهمنى، يشجعنى، يجعلنى أشعر دائما بأننى في أفضل حالاتى، في كل المجالات.
وقتها فقط أعرف أننى مع الشخص المناسب، ذلك الذى يستحقنى بجدارة؛ ليس لمنصب أو نفوذ أو مال أو حتى مصالح شخصية.
أذكر في مرة قالت لي صديقة مقربة منى: "بس كل الرجالة فيهم عيوب.. هتقعدى لحد أمتى؟.. عايزين نفرح بيكى وتخلفى وبعد كده مش مشكلة اتطلقى"، كان لكلماتها وقع الصاعقة على مسامعى؛ كيف لشخص أن يقرر الارتباط بشخص آخر دون أن يكون متأكدا مائة بالمائة أنه شريك حياته المستقبلى الذى سيواجه معه الحلو قبل المر وأنه سيكون سندًا ومعلما وقدوة وأبًا وكل شيء.
فهذه حياة نقرر أن نحياها مع من نريد، وكيف لي أن أجلب طفلًا إلى هذا العالم وأنا على ثقة، أو حتى في شك، أننى لن أكمل مع والده الحياة، وهل شرف الانضمام إلى جروب الماميز على السوشيال يستحق تلك التضحية؟ كنت أشعر من وجهة نظرى أن هذا التفكير ما هو إلا أنانية مفرطة.
نعم، فأنا أفضل لقب عانس أكثر بكثير من أن يتربى طفلي بين أبوين منفصلين.
ومنذ أسابيع كنت أشارك صديقتى المقربة حفل عيد ميلاد طفلتها، واصطحبت شريك حياتي معي وبعدها بأيام كنت أتحدث مع صديقتى تلك في الهاتف فقالت لى، إن والدة زوجها (حماتها) لم تكف عن مدح شريك حياتي، وأنها تحدثت كثيرا عن أدبه وأخلاقه وتعاونه.. وقتها أدركت أن الانتظار يجلب لنا الأفضل دائمًا وأنه مهما سمعنا من كلمات لاذعة وسبحنا ضد التيار في أوقات أو خالفنا المألوف أحيانا، فسيأتى الوقت الذى يفهم فيه الجميع لماذا كنا مُصِرِّين على وجهات نظرنا؟ ولماذا على المجتمع أن يكف عن نعت أي امرأة تخطت الثلاثين أو الأربعين أو... بدون زواج بلقب العانس، وأن هذا لا يليق بأمة حكمتها ملكات عظيمات في كل الحقب التاريخية من حتشبسوت إلى شجر الدر مرورا بكليوباترا ونفرتيتى.. أمة يحرص رئيسها على احترام المرأة وتقديرها في كل محفل، ويباهي بها الأمم مانحًا إياها دورها المستحق والذي لا يغفله أحد.