في "سباعية" مكثفة لم تعهدها الدراما الأمريكية، يروي مسلسل "مناورة الملكة" (ذي كوينز غامبيت) قصة طفلة أمريكية يتيمة في سن التاسعة تتعلم الشطرنج على يد عامل النظافة في دار لرعاية الأيتام حيث كانت تعيش بعد انتحار والدتها، وهناك تكتشف موهبتها وتصقلها بالتدريب بفضل ذلك العامل، لتشق طريقها بعد ذلك نحو العالمية بعد مرورها بسلسلة من الأحداث بدأت مع أول مباراة لها في لعبة الشطرنج.
وتصبح اللعبة هي شغف ومستقبل "بيث هارمون" التي تجسدها في صغرها ايسلا جونستون، ولاحقا تؤديها بشكل لافت الممثلة الأمريكية أنيا تايلور جوي. وبينما كانت تقوي مهاراتها في الشطرنج بالدراسة والتدريب على المباريات، واجهت البطلة مشكلة إدمانها على المخدرات التي اعتادت تناولها في الملجأ حيث كانت تُوزع يوميا على الأطفال مع وجبات الأكل في المطعم وظلت مسموحا بها ظنا أنها تساعد في تهدئة أبناء دور الرعاية بشكل خاص إلى أن تم منعها تماما. وهذه المرة الأولى التي تصور الدراما كم أجرمت ممارسات خاطئة في دور الرعاية بالولايات المتحدة في حق أطفال أيتام وحكمت على العديد منهم بالسقوط في بئر الإدمان بدون أي ذنب ارتكبوه. ولكن في المقابل ساهمت الرياضة الذهنية المتمثلة في الشطرنج في تقوية حواس "بيث" وساعدتها في النهاية على القدرة على التحكم في نزواتها لأنها كانت الدافع الرئيس لتغلبها على إدمان المهدئات والكحول.
المسلسل بتوقيع سكوت فرانك وآلان سكوت اعتبره الكثيرون هدية لعشاق الشطرنج بل لعشاق الدراما جميعهم حيث سرق منذ نهاية أكتوبر الماضي الأضواء وأصبح من بين الأكثر مشاهدة على شبكة "نتفليكس" ونجحت أنيا تايلور في جذب الأنظار إليها من خلال أدائها لهذه البطولة بشكل مثير للإعجاب عندما كانت تروَض شياطينها وتصارع نقاط ضعفها وذلك بفضل ما تمتلكه من موهبة فذة وحضور قوي على الشاشة، إضافة إلى ملامحها الفريدة وعينيها الواسعتين اللتين تشعان ذكاء وغموضا. و"أنيا" أكملت سنواتها الأربعة والعشرين فهي من مواليد عام 1996 في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، تنتمي لأسرة مهاجرة حيث تعود أصول والدها إلى الأرجنتين أما والدتها فهي انجليزية الأصل، وقد عاشت أنيا مع والديها بين الأرجنتين وإنجلترا وقضت معظم طفولتها وصباها في دراسة الباليه ثم تحولت من راقصة باليه إلى عارضة أزياء، لكنها عادت إلى هدفها الحقيقي وهو أن تصبح ممثلة. وحصلت على عدة جوائز عن أول دور رئيسي لها في فيلم (ذي ويتش) عام 2015 . وكانت قد اشتهرت قبل ذلك بدورها في مسلسل (أتلانتيس) عام 2013 ، وبعده في فيلم (فايكينغ كواست) عام 2014. كما لعبت دورًا في فيلم سيرة ذاتية عن شباب الرئيس باراك أوباما بعنوان "باري" عام 2016.
ولوحظ أن المسلسل أدى في الأيام العشرة التي تلت عرضه إلى زيادة عمليات البحث عن ألعاب الشطرنج بنسبة 273% على موقع "إي باي"، بحسب موقع "ذي إندبندنت" البريطاني. كما تضاعف عدد زوار موقع "تعلّم الشطرنج في 24 ساعة" عشر مرات، من 600 إلى 6000 يوميا، منذ عرض المسلسل والذي حاز أيضا على تقييم 8.9 من 10 في موقع "أي أم دي بي" المتخصص في تقييم الأفلام والمسلسلات. وهذه كلها أخبار سعيدة لمحبي الشطرنج الذين يتوقعون زيادة الإقبال على هذه الرياضة في العالم خاصة من الشباب خلال الفترة المقبلة وعلق الكثير من أبطال للعبة على ذلك في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بأنهم لم يشاهدوا أفضل من هذا الأداء المحبَب في لعبة الشطرنج!
ويعني عنوان المسلسل الحركة الافتتاحية في لعبة الشطرنج. وتوحي أحداث المسلسل بأنها مستوحاة من سيرة ذاتية حقيقية وهي شخصية بوبي فيشر لاعب الشطرنج الأمريكي الملقب بالمعجزة لأنه أحرز أهم لقب وهو بطولة العالم عام 1972 في مباراة وُصفت بـ"مباراة القرن" ضد اللاعب السوفياتي بوريس سباسكي.
لكن صناع المسلسل يشيرون إلى أنه مأخوذ عن رواية للكاتب والتر تيفيس ألّفها عام 1983 وصدرت في 243 صفحة وتحمل نفس عنوان المسلسل وتعتمد على نوع أدبي يركز على علم النفس السلوكي في تناول مسيرة حياة البطل ونضوجه النفسي منذ طفولته وحتى بلوغه والكيفية التي تغير بها طبعه وحدث بها تعديل في سلوكه. ولعل المفارقة أن الرواية والمسلسل تدور أحداثهما عن لعبة الشطرنج التي تسمى لعبة الملوك نظرا لغرام الطبقة الحاكمة قديما بها لأنها تكسبهم مهارات المناورة والتأمل وتكتيكات الهجوم والدفاع أمام الأعداء. غير أن الرواية هذه المرة تجعل البطلة المغرمة باللعبة ليست من سلالة الملوك ولا من طبقتهم بل طفلة يتيمة فقيرة تعيش في ملجأ ولكن الشطرنج ينجح في تتويجها ملكة على عرش اللعبة.
وبعيدا عن الشطرنج كلعبة ممتعة لها عشاقها في المسلسل، يمكن رصد المواجهة الأمريكية السوفياتية على رقعة الشطرنج ومن ورائها رسائل سياسية تضمنها المسلسل في ضوء أجواء الحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي، ونشاهد كيف تستخدم هذه الطفلة المعجزة لإظهار السعي الأمريكي متمثلا في أجهزة مخابرات الـ "سي أي أي" لتحطيم أسطورة السوفييت باعتبارهم "أسياد اللعبة" والمسيطرين على بطولات العالم منذ منتصف الأربعينيات وحتى اليوم، باستثناء اختراق واحد لصالح امريكا في عام 1972. وقد دفعت هذه التضمينات بعض النقاد إلى القول إن العقدة الأمريكية التاريخية الناتجة عن خسارة بطولات العالم في الشطرنج أمام السوفييت ثم الروس بعد ذلك هي التي دفعت صناع الفيلم إلى إنتاج مثل هذا المسلسل للثأر من خصومهم التقليديين وتحقيق الرضا النفسي ولإراحة الضمير الجمعي الأمريكي. وبقطع النظر عن مدى انطباق هذه النظرية المستمدة من الصراع السياسي والمُسقطة على لعبة الشطرنج فإن الفيلم يقدم تفسيرا لسبب تفوق السوفييت المطلق في اللعبة حيث نشاهد طاولات الشطرنج منتشرة في شوارع روسيا والناس يمارسون لعبتهم المفضلة ويتابعون من الشاشات الكبيرة قاعات اللعب التي تدور داخلها البطولات مما يعكس شعبية اللعبة في هذا البلد والتشجيع من الحكومة لممارستها على نطاق واسع، إضافة إلى دعمها للاعبيها في المحافل الدولية خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمنافسات في مباريات أمام الأمريكيين.
في المقابل، يطرح المسلسل ضعف التشجيع في الولايات المتحدة ومعاناة اللاعبين في الحصول على تمويل لتدريبهم ولتغطية انتقالاتهم خلال المشاركة في البطولات الداخلية والخارجية بل إن الرعاية التي تتيحها بعض الجمعيات تكون مسيَسة وتسعى لفرض شروط على اللاعب بعيدة تماما عن الرياضة كأن يدلي بتصريحات ضد "الاتحاد السوفيتي".
ولا يغفل المسلسل الجانب "الجندري" حيث يبرز تفوق فتاة في لعبة يسيطر عليها الرجال وهو ما يدفع بالمزيد من النساء إلى هذه اللعبة التي تعاني من التمييز الجنسي حتى في الدول المتقدمة مثل فرنسا التي لا يزيد عدد لاعبات الشطرنج فيها عن 22% من إجمالي اللاعبين الذكور. وذكرت جوسلين فولفانغل مديرة قسم اللاعبات في الاتحاد الفرنسي لصحيفة نيويورك تايمز أنها سمعت عدة مرات شبانا يقولون "لقد خسرنا ضد فتاة .. يا للعار!" وبالمثل ذكرت لاعبة الشطرنج المجرية جوديت بولغار المعتزلة عام 2014 أن خصوم بيث هارمون كانوا "لطفاء جدا معها"، مقارنة مع التعليقات المهينة التي واجهتها هي شخصيا في البطولات العالمية حتى أن البعض كان يرفض مصافحتها. ولعل عرض ملحمة بيث من شأنه دعم عزيمة النساء من عشاق هذه اللعبة؛ فكلما زاد عدد اللاعبات كلما حصلن على موقع حقيقي على رقعة الشطرنج!
olfa@aucegypt.edu