دعني أدعوك للخروج من كل تفاصيلك. للسماح ليد أخرى لا تعرفها بترتيب أفكارك. لأن تتشارك ما تريد قوله مع من يقوله ولا يريد قوله. لأن تفاتح ليل الخريف الدافئ الرطب بقمر جديد لا تملكه أنت. لأن تستعير بعض الحكايا من آخرين كى ترتب أولويات حكاياتك. إن هذا ما يحدث بكل بساطة حين نستمع لحكايات أخرى من آخرين لا نعرفهم. ليس لدينا أحكام مسبقة عنهم وعن أحداث حياتهم التي تمر بهم. لذا يمكن لهؤلاء بقصصهم أن يتدفقوا في شرايين حياتك بسلاسة وهدوء ودون معارضة. ويمكن أن تجد فيما فعلوا ما يجب أن تفعل أنت دون أن تعرفهم أو يعرفوك. قصص شاعرية.. حادة.. قوية.. حنونة.. بتاء التأنيث.. بجمع المذكر السالم.. قصص تخبرك أن الحياة قرارات هادئة. وقصتنا الأولى لامرأة تحكى وتقول:
كيف لم تستطع أن ترى هذا العالم الجديد خارج حدود ضغط ذراعيه الثقيلتين على رئتيها كل ليلة؟! كيف ظنت أن قيوده تحميها من العالم في حال أن الحماية الحقيقة كانت في الانطلاق نحوه في أحلام بديعة؟! هل سيصدقها أحد لو قالت أنها رأت حلمًا واستيقظت وهى تذكره للمرة الأولى منذ زواجها؟! وهل سيعتقد أحد أنه من الطبيعى أن تشعر بكل هذه الحرية وهي سجينة في غرفة موصدة بمفتاحها؟!
الكثير من الأسئلة حملها خيط الشمس لبريق شعرها الأشقر وهي تفتح يومًا جديدًا. ربما عالمًا جديدًا. لملمت قماش ثوبها الحريرى الأبيض الواسع المترامى على كل أجزاء السرير كاشفًا عن بريق ساقيها الممتلئتين في دعة. وقفت تمط ذراعيها في كسل. طالعتها بقايا معركة الأمس. بودرة ملونة منتشرة من جوف علب أدوات التجميل على أطراف ثوبها وتحت قدميها على جبين السجادة ذات الوبر الغزير. مالت نحو شعر السجادة الناعم. استنشقت رائحة الغبار الملون المتناثر حول ربت قدميها الحافيتين. انتشت. لطالما كرهت رائحة مساحيق التجميل على وجهها. هى تلائم السجادة جدًا. قميصه الممزق على الأريكة قرب النافذة. اقتربت أكثر. بدا كأن نسيمًا يحرك القميص. رائحة التبغ المحترق لازالت تعبث بنسيج القماش بحروق بارزة. لمست كتفها حيث ضربها بالأمس فجذبته من قميصه حتى تهاوت السيجارة من بين شفتيه في جيب القميص. كم القميص ممزق وجيبه محترق. والشمس تداعب المعركة فتحولها للوحة جميلة في عينيها البنيتين الواسعتين في سلام واسع. مازالت المعركة تدور هنا في ذكرى ليست سيئة. البتلات الوردية التي كانت أزهارًا مكتملة قبل أن تفتتها نوبة بكائها قبل النوم، بدت جميلة. تناثرت فوق التسريحة في سكون ما بعد البركان. لمستها بأناملها الباردة االنحيلة. رفعت شعرها عن كتفيها. جدلته خالطة نهره ببتلات الورد. ابتسمت. عاودها شعور يومها الأول في المدرسة. وأحست بقبلة أمها على خدها الأيمن.
تذكرت صراخه بالقرب من باب الغرفة: (أنا رجل. أتزوجك وأتزوج أخرى كما يحلو لى رغمًا عنكِ) ابتسمت مستمرة في الاستمتاع بالسلام داخلها. أحست أن الأمر لا يعنيها وأنها تشاهده وهو يصرخ ويرغي ويزبد، وكأنها تقف خارج الغرفة وقد تحولت جدرانها لزجاج. كانت تراقبه بهدوء كأنه يوجه ثورته لامرأة أخرى. لم تعد معترضة أبدًا على زواجه من أخرى. ولم تندهش أيضًا لأنها ليست منزعجة. كان يتحرك أمامها ويلقى بمساحيق التجميل في وجهها. ألقى بزجاجة العطر في وجه باب الغرفة المحدق فيهما. لطالما حدق الباب في ليلاتها معه ولم يعرها اهتمامًا لكنه أعار عراكهما كل الاهتمام. أي عراك هذا الذي يخلف ألوانًا وأزهارًا وعطرًا، ويكون شرًا؟! رأته وهو يغادر الغرفة. وسمعت صوت المزلاج وهو يتحرك في قلب الباب. أحكم إغلاق الباب بالمفتاح ورحل. لم يعد يعنيها أن يعود أو تعود أو حتى أن يجرحها أو أن يصيبها جرحها بالعار أمام العالم. لم يعد يعنيها على الإطلاق.
تقدمت نحو الباب كي تخرج لكن عتبته كانت مغطاة بشال حريري أحمر. الشال الذي أهداها إياه في الليلة الأولى. تجمدت للحظات. شعرت أن عشرتها مع ذلك الشال أقوى من عشرتها معه. حتى أن الشال يستطيع أن يمنعها من التحرك بينما لم يمنعها هو بكل ثورته وعنفه. حاولت مجددًا تجاوز الشال لكنها عجزت. عادت لفراشها. تمددت عاجزة عن اتخاذ قرار. ترمق الشال بين الحين والآخر وتشعر بغصة في القلب. مرت ساعة. فتح الباب. فشل وجهه العابس في إثارة رعبها كالعادة حتى أنها لم تنظر نحوه. اشتد غيظه. تقدم نحوها. داست قدماه شالها الحريري. ركضت بكل طاقتها دون أن تنبس ببنت شفة. كان فحيح الشال أقوى من كل شىء. لم تره قط بعدها.