منذ قرابة ست سنوات كتبت في هذه الزاوية مقالًا يحمل عنوانًا صادمًا هو"لا للديمقراطية" ذاكرًا أن فكرة الديمقراطية وفلسفتها تحتاج لمراجعة شاملة كنظرية سياسية قديمة باتت اليوم غير قادرة على توحيد الصف، لاسيما في نظامها الانتخابى الذى يقضي بفوز المرشح الحاصل على نسبة تتخطى الخمسين بالمائة ولو بواحد من عشرة، وهذا يعني عدم الاكتراث برأي ما يزيد على تسعة وأربعين في المائة، أي نصف الشعب تقريبًا، مما يولد انقسامًا في الأمة، وهذا ماحدث في الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتى خسرها الرئيس دونالد ترامب بنسبة ضئيلة للغاية، لتعكس هذه الانتخابات مساوئ الديمقراطية، إذ إن النسبة الخاسرة في أى انتخابات تضم بعض المثقفين وأصحاب الرؤى بينما النسبة الفائزة قد تحوى بعض الجهلاء، ولعلنا نتذكر ما حدث في مصرنا عام 2012 حيث خسر الفريق أحمد شفيق الانتخابات الرئاسية بنسبة ضئيلة وعشنا حالة من الاستقطاب السياسى والانقسام أدت إلى أحداث دامية كادت تصل إلى حرب أهلية، وليس غريبًا أو شاذًا من يرفض الديمقراطية، فبعض المفكرين والفلاسفة رفضوها شكلًا وموضوعًا ونصبوا لها العداء، ولعل أبرزهم الفيلسوف اليونانى أفلاطون الذى اعتبرها في كتابه الجمهورية نظامًا منافقًا لأغلبية المواطنين بغض النظر عن الصالح العام، فالمرشح طبقًا للنظام الديمقراطى يطمح للفوز بأكبر قدر من الأصوات وفى سبيل تحقيق ذلك ينافق الناخبين ويعدهم بتلبية طلباتهم حتى وإن كانت لا تتفق مع المصلحة العامة، وبهذا فإن الديمقراطية عند أفلاطون تقود البلاد إلى تنفيذ شهوات الناس وأهوائهم وتؤدى في النهاية إلى فوضى اجتماعية وإلى ضعف الدولة، كما أوضح أفلاطون أن مفاهيم الحرية والعدالة والأخلاق لا تتفق مع فكرة الديمقراطية، كما أن الفيلسوف الألمانى "نيتشه" قد رفض الديمقراطية أيضًا واعتبر أن أعضاء البرلمان ينظرون إلى المصلحة الذاتية التى تضمن استمرارهم في السلطة، أما كارل ماركس فيرى أن المسمى الحقيقى للدولة الديمقراطية هو دول ديكتاتورية رأس المال،وقد يكون غائبًا عن كثير منا أن المصريين قد كفروا بالديمقراطية في يوم ما، وخرجوا في أحداث مارس 54 يحملون لافتات كتب عليها "لا للديمقراطية" ذلك أننا عشنا مرحلة ليبرالية فريدة تقوم على تداول السلطة بين الأحزاب المختلفة ابتداء من 1923 وحتى 1952 ولكن وكما كان الرئيس السادات يردد دائمًا بأن للديمقراطية أنيابها التى تنهش جسد الوطن، فقد حدث ذلك فعلًا حيث لعب رأس المال دوره في عمليات شراء الأصوات الانتخابية، وزادت الرشاوى بشكل لافت للنظر وكونت الأحزاب خلايا عسكرية للعمل السرى، كان هدفها المعلن هو محاربة الاستعمار ومقاومته أما الهدف الحقيقى فكان تصفية أى منافس سياسى قوى، ووصل الاحتقان السياسى إلى ذروته وظهرت موجة من الاغتيالات التى إستهدفت بعض السياسيين الكبار، وأصبح السائد عقب الانتخابات مباشرة هو الاعتراض والطعن واللجوء إلى القضاء من أى مرشح خاسر، فبعض البشر لا يعترفون بالخسارة أو الهزيمة في الانتخابات، تمامًا كما فعل ترامب والذى يعيذ الخسارة إلى التزوير والرشاوى، وهذا ما يحدث في معظم الدول التى تتخذ من الديمقراطية نظامًا للحكم وليس غريبًا أن يسيطر رجال الأعمال على المجالس النيابية في العالم كله، فهم يملكون القدرة على الحشد الجماهيرى بفضل أموالهم وموظفيهم، وقديما كان الفلاحون يجلدون من البشاوات والرأسماليين إذا رفضوا الانصياع لأوامرهم بالتصويت لفلان أو علان، ولذا فقد باتت في سنوات سابقة روح الانتقام هى السائدة بين الأحزاب، فالحزب الذى ينال الأغلبية ويشكل الحكومة يقوم بفصل آلاف الموظفين الذين ينتمون إلى الأحزاب الأخرى ويقوم بتعيين أعضائه، ونتيجة الديمقراطية التى عشناها قبل 52 هزم الجيش في 48 واحترقت القاهرة وانتشر الفساد وعمت الفوضى، فلما استيقظ الناس صباح 23 يوليو استمعوا لبيان الثورة الذى جاء فر مقدمته (اجتازت مصر مرحلة عصيبة من الفساد والرشوة وعدم استقرار الحكم) واستقبل الشعب هذه الثورة بفرحة عارمة وحين أعلن الجيش عن عودته إلى الثكنات والابتعاد عن السياسة رفض الشعب ذلك ورفع راية "لا للديمقراطية"، ذلك النظام الذى فشلت البشرية في إيجاد حلول لمشكلاته وعلى مدى التاريخ لم يتوصل الإنسان إلى أنظمة مختلفة للحكم باستثناء الاشتراكية والديكتاتورية، وحين قدم العقيد القذافي نظرية جديدة في الكتاب الأخضر سماها نظرية الجماهيرية اعتبره البعض مجنونا دون النظر إلى فحوى تلك النظرية، وواقع الأمر أن البشرية تحتاج لنظرية سياسية أخرى غير الديمقراطية وغير جميع النظريات السياسية الموجودة.
آراء حرة
الديمقراطية كنظرية سياسية
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق