أصعب سؤال يمكن أن يواجهه طفل على الإطلاق عندما يسأله والده أو والدته في حالة انفصال أحدهما عن الآخر: من سيختاره للعيش معه؟
حكت الطفلة ذات الأربع عشرة ربيعا لمُدرِستها عن الخوف الذي يسيطر عليها بعد أن أصبح مطلوبا منها هذا الاختيار الصعب.
مثل هذا السؤال كان الأبوان يقصدان به إعداد الطفلة عقليًا ونفسيا لهذا الموقف التي ستواجهه قريبا عند حدوث طلاقهما. وحتى لو سلمنا بأن الطلاق أفضل للطفلة من البقاء في أسرة غير سعيدة غير أنه يظل سؤالا صعبا محطما لمعنويات الأطفال. وغالبًا ما يتفاعل الأطفال مع انفصال والديهم بالخوف والشعور بالذنب. إنها هزة عنيفة تسبب لهم ارتباكا حيث يشعرون بأنهم غير قادرين على فهم ما يجري ويعتقدون أنه إذا توقف الآباء عن حب بعضهم البعض فيمكنهم أيضًا التوقف عن حبهم. و يصاب الأطفال الصغار بالقلق الشديد بشأن من سيهتم بهم ، وما إذا كان هناك ما يكفي من الطعام أو المال لهم، وأين سيعيشون. ولا يوجد حقًا عمر لا ينزعج فيه الأطفال من الإجهاد في علاقة سيئة يتنازع فيها الأبوان باستمرار ويتحول المنزل إلى ساحة حرب!
وحالة الارتباك تدفع الطفل للبحث عن غطاء أمان يحميه من الضياع. وقد يواجه مشاكل الأرق وعدم النوم نتيجة ما يُعرف بالمخاوف الليلية، أو الكوابيس إذا استسلم للنوم، إضافة إلى التبول اللإرادي. وأقسى المشاعر تلك التي تصور للأطفال أنهم تسببوا في الانفصال بين والديهم حيث يعتقدون أن أباهم أو أمهم لم يكونا ليطلبا الطلاق لو تصرفوا كأبناء بشكل أفضل.
ويحتاج كل طرف سواء الأب أو الأم عند اتخاذ قرار الطلاق أن يكون قريبا من اختيار الطفل وليس ضد رغبته، بمعنى إذا سأل كل طرف الطفل عمن سيختاره للعيش معه فلابد من احترام رأيه وليس تحويل إجابته وقراره إلى محاكمة للطفل من الطرف الذي اعتقد أنه خسر رهان حب الطفل له.
على العكس من ذلك، يجب أن يحرص الوالدان أن يدرك الطفل أنه مهما كانت المشكلة التي يواجهانها فهي ليست خطأه، بل هوخطأ "البالغين" الذين لا يستطيعون حل المشاكل التي يواجهونها. والطفل عندما اتخذ قراره فإنه فعل ما يجب عليك فعله واستمع لجسده ومشاعره. وهنا من الغباء تحويل الطفل إلى أداة كراهية لأي طرف من الوالدين، أو استخدامه في "المعركة" لحساب طرف ضد الآخر، وألا يشعر بالضغط للانحياز إلى جانب وهنا من الضروري تلافي انتقاد الوالد الآخر أمام الأطفال.. ولكن ما أكثر الغباء في هذه الحالات التي تعج بها عائلاتنا ومحاكمنا حيث كثيرا ما تتحول العلاقة بعد الطلاق إلى حقد وكراهية وانتقام متبادل ويكون الطفل في قلب المأساة ويتحول إلى ضحية. بينما من المفترض تشجيع الطفل على يكون صادقًا مع كليهما بشأن مشاعره الغريزية مع توصيل رسالة إيجابية لطمأنة الطفل بأن كليهما يحبه بغض النظر عن كونهما معًا أم لا، وأنهما سيوفران له الرعاية والعناية، ويخصصان له غرفة نوم في كل منزل سواء اختار أمه أو أبيه وأن كليهما لن يتخلى عنه بل سيدعمانه في دراسته وحياته المستقبلية .. وبغض النظر عن اختياره لأحدهما، فيجب أن يتأكد الطفل أنه سيكون بخير، فبعد أن اتخذ الوالدان خياراتهما عليه أن يختار هو ما يناسبه. وإذا تم احترام اختيار الطفل فتلك ضمانة في المستقبل القريب لكونه سيكون ابنا/ابنة محبا لوالديهما معا.
الحكمة التي يفتقدها الآباء في أحيان كثيرة تكون في ملعب الطفل برغم سنه الصغيرة وقد يؤديها ببراعة يتفوق بها على الكبار "الحمقى"!
أما إذا غلَب الأبوان الحكمة فعليهما إخبار صغارهما بوضوح أن والديهما سيهتمان بهم، وأن الأب والأم لا يزالان يحبانهم بلا قيد أو شرط كما أنهم ما زالوا عائلة بغض النظر عن مكان إقامة كل فرد من أفراد الأسرة.
ويحتاج الأبوان كذلك إلى شرح سبب حدوث الانفصال بطريقة بسيطة لأطفالهم؛ سيساعد هذا بدوره على انفتاح الأطفال والحديث عن مخاوفهم. ويجب أن يخصص كل طرف وقتًا كافيا للتحدث مع الأطفال حول شعورهم. كما يجب على كلا الوالدين الحرص أيضًا على تجنب الصراع أمام الأطفال، خاصة أن الكثير من الجدال بين الزوجين سرعان ما يتطور إلى عنف؛ وإذا حدث ذلك يجب تأمين سلامة الأطفال. لكن بلا شك، إذا تم التحكم في الغضب فإن الأب والأم يقدمان مثالا جيدا لأطفالهم يساعد في إبطال الضرر الذي قد يلحق بالأطفال نتيجة الطلاق. وغالبًا ما يأمل الأطفال الصغار في عودة الأم والأب معًا. لكن إذا كان مستحيلا وهو غالبا كذلك فلابد من التوقف عن "بيع الأوهام" للصغار الذين قد يشعرون أن من واجبهم رعاية والديهم وإراحتهم ، وسيحاولون بذل الكثير من الجهد لحل مشاكل والديهم. وحالة عكس الأدوار مع الوالدين ليست بالأمر الصحي للأطفال الصغار فلا بد أن يحافظ كل طرف على موقعه في العلاقة.
في هذا السياق، تشير دراسة بريطانية حديثة إلى أن الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يحتاجون إلى قضاء وقت جيد وطويل مع كلا الوالدين لتخفيف ما يشعر به معظمهم من حزن شديد لعدم التواجد مع الوالد الغائب عنهم نتيجة الانفصال؛ وهنا لابد من السماح للطفل بالتعبير عن شوقه للطرف الغائب. وتؤكد الدراسة أنه بالنسبة للأطفال دون سن الثالثة فإن أسبوعًا واحدًا من الابتعاد طويل جدًا عليهم حيث إن إحساسهم بالوقت أطول بكثير من شعور الأطفال الأكبر سنًا. وتخبرنا الدراسة كذلك أن الأطفال يتأثرون عندما يرون والديهم يتشاجرون حيث يؤثر هذا العنف على أفكارهم وسلوكهم وغالبا ما يميلون إلى الحزن ويعبرون عنه بالبكاء- خاصة لدى البنات- ويقلدون والديهم بضرب الأطفال الآخرين.
وفي حالة الطلاق يشعر الأطفال بشوق عميق تجاه الوالد الغائب ويفتقدونه بشدة، حتى لو لم تكن علاقتهم به جيدة قبل الانفصال. ومن جانب آخر، سيعبرون عن غضبهم تجاه الوالد الحاضن، وقد يلومونه على غياب الوالد الآخر. وعندما يقل التواصل مع الوالد الغائب، يعتقد الأطفال في هذا العمر أن الوالد توقف عن حبهم ويسبب لهم صدمة عاطفية عميقة، آثارها لا تندمل، وكأنما يُحرم هؤلاء الأطفال من فيتامينات حيوية للنمو السليم فيصابون بـ "أنيميا عاطفية"!
وتنبه نفس الدراسة إلى اختلاف ردود فعل الأطفال الاكبر سنا والذين يتجاوزون الـ 12 عاما، وغالبا ما يحاولون بانتهازية وجرأة تحقيق أقصى استفادة من الطلاق؛ فهناك حوالي 25٪ من الأطفال في هذا العمر ينحازون في معركة الوالدين وغالبًا ما يقفون إلى جانب الأم. وينتج عن ذلك تصنيف أحد الوالدين على أنه "الشخص الصالح" والآخر بأنه "الشرير"!
أخيرا، إذا كان أبغض الحلال عند الله الطلاق فلنتذكر الطرف الأضعف في هذه المعادلة وهم الأطفال الذين عادة ما ينساهم الجميع رغم كونهم الضحية الأكثر تأثرا بتفكك الأسرة. ربما لا يتوقف الآباء كثيرا عند تكرار مرض الأطفال والمعاناة المستمرة من مشاكل صحية مختلفة ولا يربطونها بتلك الهزة العاطفية التي نتجت عن طلاق الأبوين. غير أن الإجهاد الذي يمر به الأطفال خلال الطلاق يؤدي إلى تفاقم هذه المشاكل الصحية، بما في ذلك الصداع والغثيان وآلام المعدة، والربو والحساسية، والالتهابات الجلدية وغيرها من الأمراض. ويفيد الأطباء أن الأطفال ضحايا التفكك العائلي يأتون إلى عياداتهم أكثر بكثير من الأطفال الآخرين. لذلك، حرصا على مصلحة الأطفال، لا بأس بالقول إن الأم والأب لا يتفقان في كل شيء لكنهما يتفقان بشأن الأطفال!
olfa@aucegypt.edu