كفاية يا مصر لو يبقى الهضيبى
وأعوانه على عرش الإمارة
وسيد قطب يعطوه المعارف
وسيد فرغلى ياخد التجارة
وعودة يعودوه ضرب المدافع
وسى عبد الحكيم عابدين سفارة
وسى عبد العزيز أحمد يسوقها
ويتولى المواصلات بالإشارة
وكل جهاز تتعين عيله
عمد في كل قرية وحارة
محافظ مصر خريج الدباغة
وتحته وكيل خريج النجارة
ويقنى الكمسارى أكبرها عزبة
ويقنى السمكرى أضخم عمارة
وتخلص مصر من عيلة الدخاخنى
إلى عيلة الخواتكى أو شرارة
ويومها تحلق الإخوان دقونها
ويترص الحشيش ملو السيجارة
ووحياتك لا أيد اللص تقطع
ولا تبطل مواخير الدعارة
ويبقى الشعب هواه في الفلافل
وطرشى الحاج سيد والبصارة
هكذا تحدث الشاعر والمفكر الكبير محمود بيرم التونسى عن دولة الإخوان.
ولد محمود بيرم التونسي، في حى الأنفوشى بالإسكندرية بشارع البورينى بالسيالة ولكن والده سجله ضمن مواليد حى الأزاريطة.
وتحدث أول قصيدة لبيرم صدى هائلًا في جميع الأوساط، حتى الشعبية منها، بل لقد طلب المجلس البلدى ترجمة القصيدة. وبعد أن وقفت قدم بيرم التونسى على أرض صلبة – بالنظر إلى موهبته- اتجه بيرم إلى نوع آخر، وهو القصائد الزجلية أى أنه اختار الكتابة بلغة الشعب؛ وذلك بهدف أن تصل قصائده إلى كل فئات الشعب. ويتعرف بيرم بـ"سيد درويش" ويكتب له أول قصيدة وطنية فيقول:
اليوم يومك يا جنود
متجعليش للروح تمن
يوم المدافع والبارود
مالكيش غيره في الزمن
هيا اظهرى عزم الأسود
في وجه أعداء الوطن
عارٌ على الجندى الجمود
إلا إذا لفه الكفن
وتشب في تلك الفترة ثورة ١٩١٩ فيجند بيرم قلمه لمساندة الثورة ويصدر جريدة "المسلة" ويقول: إن سبب هذه التسمية، أن لفظ المسلة يعود إلى الفراعنة كما أن المسلة ذات أطراف مدببة جارحة، وبالإمكان أن نجعلها كالمنار تبدد الظلام والجهل من حياة المصريين، ويكون لأطرافها المدببة –مثل كلمات بيرم القاسية– أقوى أثر على حياتهم وفكرهم.
ويستقبل الجمهور العدد الأول من جريدته -الذى وزعه بيرم بنفسه- بترحاب شديد. وليكون بيرم في قلب الأحداث؛ ينتقل إلى القاهرة ويؤجر حجرة بها، ويؤلف في هذه الفترة أوبريت جديد بالاتفاق مع سيد درويش ويقررا أن يكون مضمونه سياسيًا لكى يبثوا في دماء الشعب الحماسة.. ويكتب بيرم في الأوبريت:
أنا المصرى كريم العُنصرين
بنيت المجد بين الأهرمين
جدودى أنشأوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادى الخصيب
وعندما أصبح السلطان أحمد فؤاد ملكًا عقب التصريح البريطانى في ٢٨ فبراير ١٩٢٦ الذى اعترفت فيه بريطانيا بالاستقلال الذاتى لمصر وتحولت مصر من سلطنة إلى مملكة، إذا ببيرم ينشر زجلًا بعنوان مجرم ودون يقول:
ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك
وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
وخلوك تخالط بنات البلاد
على شرط تقطع رقاب العباد
وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد
على البنك تشحت شوية زتون
بذلنا ولسة بنبذل نفوس
وقلنا عسى الله يزول الكابوس
ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس لا مصر استقلت ولا يحزنون
ويواصل بيرم نشاطه في صحيفته فيصدر في العدد ١٣ قصيدة بعنوان "البامية الملوكى والقرع السلطاني" وفيها ما يفيد أن وريث العرش الجديد –وهو الملك فاروق- وُلد بعد أربعة أشهر فقط من الزواج!
وعلى إثر هذه القصيدة أمر السلطان بإغلاق الصحيفة فورًا، فأصدر بيرم جريدة أخرى سماها "الخازوق"، وواصل هجومه فيها على الأسرة المالكة، لدرجة أن السلطان اتصل بالقنصلية الفرنسية -التى كانت تتدخل في شئون مصر بزعم حمايتها للأجانب، وبما أن أصل بيرم (أبو الجد) غير مصري؛ يكون بيرم تحت الحماية الفرنسية- لترحله فورًا إلى بلده تونس.
وفعلًا يتم طرد بيرم في ٢٥ أغسطس ١٩٢٠ ولا يُسمح له حتى بوداع أهله، وكان عمره وقتها سبعة وعشرون عامًا!.
عند وصول بيرم إلى تونس، لم يسمح له حاكم تونس بمزاولة أى عمل صحفي؛ فيقرر السفر إلى باريس ومنها إلى ليون، وكان عمله هناك مجرد وسيلة يضمن بها بقاءه على قيد الحياة، فعمل بيرم في مصانع الصلب والغازات الخانقة، وكان لهذا العمل الشاق –بجانب مشقة الغربة- أثر كبير في صقل موهبته، فمع انشغال بيرم الدائم بانتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بلده (مصر) –على الرغم من بعده عنها- واصل بيرم عمله الزجلى بشكل آخر، حيث عقد مقارنات بشكل أدبى أيضًا بين مصر وباريس.
يقول بيرم عندما يعلم أن بعض رجال الصوفية يحرضون الناس على الانفضاض عن "عمر لطفي" ودعوته التعاونية بزعم أنه من أنصار الحركة البلشفية -يقول بيرم تحته عنوان "عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير؟".
لا في الجوامع رأيت مثلك ولا في الدير عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير
مدام فضيلتك بتاكل "كستيلته وطير" يبقى الدريس والدرة والفجل للخرفان
لا.. والتلامة يستشهد لنا بالدين
إنه أمر يبقى نُص المسلمين جعانين
إن كنت فاهم شريعة العدل عن لينين انظر شريعة نبينا نازلة في القرآن
ويأخذ بيرم في مراسلة الفرق المسرحية ليجد ما يسد به جوعه فيكتب بيرم ويقول:
يا باريز يام بلاد بره
يا مربيه لامارتين
بعتتْ لك أم الدنيا
شاعر في الشعر متين
يعمل أشعار لصعايده وبنات وفلاحين
وتلامذه وأزهريه وخوجات ومفتشين
إياك ما يموتش عندك في بيوت المساكين
وتظل الدنيا توجه ضرباتها لبيرم، حتى يتنكر له الكثير من أصحاب الجرائد التى يراسلها فيعبر عن آلامه ويقول:
الأوله مصر، قالوا تونس ونفوني
والتانية تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالتة باريس، وفيها الكل نكروني
الأوله مصر، قالت تونس ونفوني.. جزات الخير
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني.. وحتى الغير
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني.. وأنا موليير
في سنة ١٩٦٠ م يمنحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب. وظل إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة، وأصحاب الكلمات الحرة المضيئة حتى تمكن منه مرض الربو وثقل السنين.