لا يدرك معظمنا عدد المرات التي شعر فيها بالخوف، أو عدد المرات التي مارس فيها التشكيك في قدرته على تجاوز الأشياء التي يخشاها أو يتحاشها. لكننا ندرك في الوقت أن بمقدور الخوف أن يستحوذ على زمام أمورنا كلها بلا استثناء وأن أصغر الأمور التي نريد القيام بها قد تشعرنا بالفزع والرعب.
لكن ما الخوف؟
تًعرفه المعاجم اللغوية بتعاريف شتى وأجمعت على أنه الفزع، أو ما يُضاد الأمن والأنس، ودلت على أنه الضعف. وقد انبثقت من لفظة الخوف اشتقاقات ثبتها المعجميون في متونهم منها: الخيفة، المخافة.
وتوسعت المعاجم أيضا في ذكر مفردات للخوف اختلفت في اللفظ لكنها تقاربت في الدلالة وهي: الجبن، الحذر، الخشية، الذعر، الرعب، الرهبة، الروع، الفزع، الهلع، الهول، الهيبة، الوجس، الوجل.
وعرفه فرويد بأنه فعل غريزي ووقائي منشؤه تأثير خارجي. ووصفه أرسطو بأنه ألم نابع من توقع الشر. وأرجعه التوحيدي إلى توقع مكروه، وانتظار محذور، والتوقع والانتظار إنما يكونان للحوادث في الزمان المستقبل.
من الوحوش، والمتسلطين، والمرض، والفقر، والجوع، والفقد، والموت، إلى الكوابيس عاش الإنسان منذ أن وطأت قدماه على هذه الأرض صراعا مريرا مع الخوف الذي يعد واحدا من أبشع الأحاسيس وأشدها قسوة عليه. لذا كانت إحدى مهامه الأساسية تكمن في كيفية استعادة سيطرته على هواجزه المخيفة والتغلب عليها فكان الصراخ، والطبول، والموسيقى، والتعاويذ، والهتاف، والكلمة.
تاريخ البشرية لا سيما الشعراء حافل بالخوف إذ أن رعيلا من الشعراء تعرضوا إلى وصفه في قصائدهم.. وكانت القصائد التي ضمها ديوان " فهرس الخوف" لرنا التونسي الصادر مؤخرا عن دار العين آخر ما وصلنا منهم.
الخوف لدى رنا التونسي ليس وليد موقف أو لحظة عابرة وإنما تشكل رويدا رويدا وقطرة قطرة منذ لحظة ميلادها التي ترى أنها لم تخص أحدا سواها: "ولدت في منتصف العام/ في وقت لا يهم أحدا/ ولم تقع فيه أحداث كثيرة/ لكنني رأيت نفسي الآن/ في صورة خائفة أحضرها ابني، وهو يسألني: " أين كنت؟ ماذا كنت تفعلين؟"/ أخبرته: كنت في طريقي إلى والدك/ لنلقاك".
المسافة من لحظة ميلادها حتى اللحظة التي لاقت فيها وليدها مفروشة بالخوف قطعتها الذات الشاعرة وهي تبحث عن مهرب وملاذ آمن ولأنها لم تعثر عليه، ولأنها لم تصادف سوى أشباح فكان العناق وسيلتها لدرء الخوف منها : "لا يمكنني أن أمنع الخوف من العمل/ لكني أقابل كل شبح بالعناق".
الطمأنينة غيمة، وإن لم تكن بمفردك فالعتمة لا تُخيف، فلديك من يؤنسك ويمنحك القُبل، ولكنكما ستظلان في حاجة إلى التخلص من نفايات الأمس الثقيلة، والمدببة، التي تخترق الروح: "أريد أن أنتقل إلى بيت جديد/ تكون الذكريات فيه أصغر من أن تدخل إلى الباب/ نتركها للبائعين/ من يحملون بفرح/ القلوب الكسيرة".
الخوف يٌصيبنا بداء الهشاشة، العزلة تحيلنا إلى رقائق من زجاج خفيف، قابلون للكسر ولو لم يلمسنا أحد وفي الغالب الأعم هذا مصير الأرواح الطافية فوق مياه اللاطمأنينة: "أنا الشباك الذي يتكسر وحده/ قبل أن يفكر طفل/ أن يمسك حجرا".
قصائد الديوان حددت بوضوح معالم الخوف الذي اكتنف الذات الشاعرة وعبر رحلة امتدت نحو اثنين وخمسين قصيدة، استطاعت الإفلات من قبضة هذا الشعور الناهب كما استطاع المتلقي الوقوف على حدود عزلتها، يتابعها عن كثب وهي تفتش عن الطفلة التي كانت، والأم التي مشت بعيدا كي تلقى ابنها في النهاية دون أن تلتفت إلى الحروف الأبجدية، التي تركتها مبعثرة على الأرض، لتنمحي أثر كلمة، وضحكة كادت تنجلي، وأصدقاء سوء، تعرف كيف تخلقهم كما تخلق الغمازات، والفراشات والضحك.