صباح السبت الماضي قمت بجولة على عدد من اللجان الانتخابية لمجلس النواب، من الحي العاشر فى مدينة 6 أكتوبر، مرورا بمنطقة صفط اللبن، ومنطقة الهرم، والعمرانية والجيزة وحتى محيط مقر عملى بالدقي،.. الظاهرة فى الساعات الأولى من التصويت واللافتة للنظر هو الحضور البسطاء من عامة الناس، إما فرادى وإما عائلات، لكن الأغرب الذى لفت نظرى هو تلك السيارات التى تقل مجموعات متوسطة وكبيرة من ذات الشريحة.
الظاهرة لافتة للنظر جدا، ولماذا هذه الشريحة، بالذات التي يتم تجميعها من مرشحين بعينهم، الإجابة واضحة عندما نجد أن هذه المجموعات جاءت خصيصا للتصويت لمرشحين محددين، فالحافلات تنتظرهم، حيث يقوم شخص باصطحابهم إلى الأبواب الخارجية للجان، ويظل ينتظرهم ليعودوا إلى نفس الحافلة، لتعود أدراجها إلى من أين أتت طبعًا.
المؤكد أن هذا يمثل ظاهرة تتعلق بشراء الأصوات، ولا تخرج عنها، وتستهدف البسطاء من هذا المجتمع، واستدراجهم بعشرات الجنيهات، ولا أتصور أنها لا تزيد على الـ200 جنيه، وفى حالة استغلال بشع لحاجة هذه الطبقة من المجتمع المصرى، إما بهذه الجنهيات، أو مقابل أشياء أخرى عينية.
قد تكون الظاهرة ليست جديدة فى الانتخابات بصفة عامة، ولكن من الملاحظ أنها أشد هذه المرة، خصوصا فى بعض الدوائر التى بها مرشحون من أصحاب المال والنفوذ، ويعنيهم الوصول إلى البرلمان، وامتلاك عضويته، وأعنى "امتلاك" بالمعنى الحرفى للملكية، لأنها يعتبرونها عملية "شراء" وليس "انتخاب" والتى توفر لهم حصانة، وما يترتب عليها من مزايا، وربما الحصول على تسهيلات، وأمور أخرى تصب فى خانة المصالح الشخصية.
هنا يبرز مفهوم "المالى السياسى" فى الانتخابات العامة، والذى كنت أتصور أنه سيخف بعد اختفاء الحزب الوطنى بعد 25 يناير، ولكن يبدو أن هذا مجرد وهم فى خيالى، ولا وجود له فى الواقع الحالى، الذى نعيشه، ويبدو أن الأمور لم تتغير كثيرا، بل هناك من يرى أن المال السياسى وشراء أصوات الناخبين ظاهرة لن تختفى، ويعتمد عليها ملاك المال لشراء الحصانة وعضوية المجالس التشريعية.
ولا شك أن هذه الظاهرة تمثل خطورة كبيرة على مجتمعنا بشكل عام، سواء من الناحية السياسية، أو الاجتماعية، بل تدخل تحت نطاق "تجار أزمات الناس"، وهو ما يعنى استغلال حاجة بعض الفئات فى المجتمع المصرى، وهو ما يعنى أن الدولة إما غائبة عن معالجة تلك الظاهرة، وإما أن هناك من يغض الطرف عن محاربتها، بالرغم من خطورتها على الدولة فى مضمونها العام.
ومن الواضح أن ظاهرة شراء الأصوات تتركز فى المدن الكبرى، وترتبط ارتباطا وثيقا بشخوص محددة، وهو الأمر الذى يمكن السيطرة عليه لو هناك عزيمة فعلا لمواجهتها، ومواجهة مخاطرها على الدولة، خصوصا أنها قد تكون منفذا لدخول ممثلين عن الشعب لديهم أجندات خاصة، والخطر يصبح أكبر على المدى البعيد.
هناك قضية خطيرة أخرى تتعلق بأن يصبح امتلاك المال هو معيار التمثيل البرلمانى والتشريعى، ويتحول الصوت البرلماني هو الدفاع عن المصالح الفئوية، ويختفى النواب الذين يمثلون المواطن الحقيقي، ومن المؤكد أن هناك لوائح وضوابط فى القوانين الحالية لمحاربة هذه الظاهرة، وغيرها من الظواهر التى تتعلق بوجود انتخابات برلمانية نظيفة، ومواجهة أى مبالغة فى الإنفاق على الدعاية الانتخابية، والتى بدت هى الأخرى إحدى أهم ملاحظات الانتخابات فى مرحلتها الأولى.
القضية الأخطر فى ملف مثل هذا أن تنتقل ظاهرة شراء الأصوات إلى مختلف الانتخابات، وخصوصا المحليات، والمتوقع أن تكون فى العام 2021، وهو ما يعنى أن يتسرب الفاسدون إلى كل المجالس المحلية، وتتفشى ظاهرة الفساد أكثر مما نعانية منها حاليا، بل ظاهرة شراء الأصوات قد تمتد لأى استحقاق انتخابى، حتى على مستوى التجمعات الصغيرة، وفى النوادى والجمعيات، وإن اختلف الهدف من عضويتها.
ويبقى أن تكون هناك شفافية حول كل ما تردد من معلومات حول ما يدفعه المرشحون على "القوائم" مقابل وتحديد وضع أسمائهم وفقا، لما يدفعه كل عضو من أموال!.
قد يقول البعض، إن ما أقوله مبالغة عن تلك الظاهرة الخطيرة، ولكن درء المخاطر من البداية أمر تقتضيه الضرورة فى وقت تخوض فيه مصر مرحلة بناء دولة جديدة،..عمادها محاربة الفساد، وتعزيز التنمية والديمقراطية، ومجتمع نظيف.