الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محمود ياسين.. الإنسانية في أعذب صورها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قابلته مرات قليلة، وأبهرنى أدبه الجم ودماثة خلقه وتواضعه، فطيبته ونقاؤه يلمسهما كل من يقترب منه.. بالتأكيد زاد حبى واحترامى له أضعافا بعد أن تعاملت معه، رغم أنني في الأساس من محبيه كفنان كبير تربينا على أعماله وعشقناها.. وقد يتخيل البعض أنه أصبح هكذا بعد خبرة العمر وتجارب الحياة، والتى تزيد الإنسان تواضعا كلما امتلك علما وخبرة.. ولكننى منذ شهور اكتشفت أنه كان هكذا على مدى عمره، وفى أوج شهرته وتألقه.. لم تغير النجومية طبيعته العذبة وفطرته النقية وإنسانيته.. شعرت أننى أتعرف عليه من جديد، بعد أن قرأت الكتاب الممتع والثرى (الغجرى: مذكرات مخرج مسرحى) للمخرج الكبير مراد منير، والذى صدر منذ أيام قليلة من خلال دار نشر (الثقافة الجديدة) التى يرأسها حاليا الأديب القدير صنع الله إبراهيم.. يتناول مراد منير في كتابه قصة حياته بكل تفاصيلها، وينقلنا معه للزمن الذى عاشه بأماكنه وشخوصه وأحداثه.. وقد تطرق في كتابه للفنان محمود ياسين، الذى كان له دور مؤثر في حياته وبداياته، وأدمعت عيناى تأثرا من فرط إنسانية ياسين، والذي لم يكن حينها سوى فنانا شابا بدأ أولى خطوات النجاح، إلا أنه غمر منير بأبوته وعطائه ومحبته.. فرغم أن علاقتهما كانت محدودة، حيث كانت في بدايات ياسين، أى قبل رحلة سطوعه في القاهرة.. فقد كانت البداية حينما أسس فرقة الطليعة المسرحية، مع صديقيه المخرجين عباس أحمــــــد وسيد طليب، في مدينتهم "بورسعيد".. وضم منير لهذه الفرقة وهو لا يزال في الرابعة عشرة من عمره، إلا أن ياسين سرعان ما غادر بورسعيد ليبدأ طريق النجومية.. وبعد سنوات لحقه منير للقاهرة للالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، وتحديدا في عام 1966.. وقد حكى منير في مذكراته عن رحلته للقاهرة وهو لا يملك إلا أقل القليل، وكيف صده وتنكر له أحد مخرجي المسرح الكبار، والذى كانت تربطه به علاقة تلميذ بأستاذه لسنوات طويلة، ورغم ذلك تعامل معه بتعال وقسوة.. وعلى النقيض وجد الحفاوة والاحتضان والملاذ عند محمود ياسين، فبعد أن ضاقت الدنيا في وجهه، وظل هائما في الشوارع باكيا ومفلسا تماما، وجد نفسه دون ان يدرى أمام العمارة التى يقطنها ياسين مع أحد أصدقائه.. فصعد إليه وأثر الدموع لا يزال في عينيه، وفوجئ بإستقباله وترحيبه والذي وصفه في مذكراته ب"استقبالا صاعقا وأبويا"..وسأله:"
انت كنت بتعيط ؟ عينيك يابنى مليانة دموع.. حصل ايه؟"..فحكى له باقتضاب، وكان يقيم بشكل مؤقت في شبرا، عند أحد أقربائه -من بعيد- والذى لم يكن مرحبا بوجوده بالشكل الكاف..فأعطاه ياسين نقود، وطلب منه أن يأتي بأغراضه من شبرا كى يقيم معه حتى موعد الامتحان، وأخبره بأنه سوف يقوم هو بتدريبه.. وبالفعل تبناه بشكل كامل طوال فترة إقامته، في غرفته التى لا تحتوى إلا سريرين صغيرين ووابور جاز، ومكتبة تحوى كمية هائلة من المسرحيات العالمية والعربية..يقول منير:"24 يوم في بيت الأستاذ محمود يس..علمنى فيهم كل شيء عن فن الممثل كما يعرفه، وقد كان يعرف الكثير....نعم أكثر من 50 مسرحية قرأتها في 24 يوما بمقدماتهم الثريه مجهزا نفسى للمواجهة الكبرى".. اقتسم معه اللقمة، وكان يراجع معه المشاهد يوميا حين يعود للبيت قرب الفجر، ويناقشه في المسرحيات التى قرأها، ويشجعه ويحفزه ويبني ثقته بنفسه، وتحسنت صحته بفضل برنامج التغذيه الذى برع في تنظيمه الأستاذ.. حتى بعد إخفاق منير في الالتحاق بالمعهد، لم يجد منه سوى المواساة والدعم والتشجيع، وعامله حسب وصفه:" بأعذب انسانيه لم يقابلها طوال حياته".. وقد جمعتهما خشبة المسرح بعد ذلك بسنوات طويلة، ليس في عمل مسرحي، بل عند تكريم مراد منير ومنحه جائزة أفضل مخرج مصرى عن مسرحية "الملك هو الملك" عام 2006، والتى سلمها له ياسين بنفسه حيث كان هو رئيس المهرجان، ويقول منير:"شعرت بنظرته الفخوره وكأنه يقول لى.. ها قد انتصرت يا ولدى".. هكذا كان محمود ياسين الأستاذ فنا وخلقا وثقافة، لذلك سيظل اسمه ساطعا في دنيانا، ليس فقط بما تركه من أعمال فنية قيمة، ولكن بسيرته الطيبة ونبل أخلاقه ومواقفه، والتى سنظل نتناقلها ونتعلم منها، ونفخر به كفنان مصرى بحق نثر بذور المحبة والإخلاص والتفاني والإبداع.