لم يعد اهتمام الحكومات على مستوى العالم في إدارة اقتصادياتها يقتصر فقط في تحقيق الأهداف النمطية للاقتصاد مثل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة أو زيادة نسب الإنتاج والتشغيل للاقتصاد فحسب، وإنما في إطار حركة التغير السريع في بيئة الأعمال العالمية استلزمت تلك التغيرات التفكير في أشكال وآليات اقتصاية جديدة تواكب حركة التغير السريعة في بيئة الأعمال العالمية، وفي سياق توحيد العولمة للاقتصاد الدولي، من خلال انفتاح الأسواق الوطنية على الأسواق الحرة الدولية بحيث أصبحت قوة الدول تُقاس بقوتها ليست فقط العسكرية بل كذلك الاقتصادية.
وأصبح الاقتصاد القوة والمحرك الرئيسي الآن للنظام العالمي، وهو ما كان له انعكاس بشكل قوي في تخلي الدول عن المفهوم التقليدي في إدارة العلاقات الاقتصادية بينها.
وفي سياق التطورات التي يشهدها العالم الآن اقتصاديا وكذلك سياسيا أصبح من المستحيل فصل السياسة عن الاقتصاد، وأصبح الاقتصاد الآن سببا رئيسا في نشوء العلاقات الدبلوماسية بين الدول، بل أصبحت الدبلوماسية تستخدم الاقتصاد في أحيان كثيرة لخدمة أهداف الدولة وتوجهاتها التنموية، بالإضافة إلى الدور التقليدي الذي يلعبه الاقتصاد على مستوى الدول محليا، هذا بالإضافة إلى أن للاقتصاد كذلك دورا خارجيا مهما في رفع قوة الدول اقتصاديا، ووضعها ضمن مصاف الدول العظمى على المستوى الاقتصادي وكذلك السياسي.
ومن أهم الأمثلة على ذلك الدور هو دور الدول في المساعدات الإنسانية الخارجية، وكذلك في مجال الإقراض للمشاريع الدولية التنموية، وما يصاحب ذلك من الجهود الاقتصادية الرامية إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة الدولية والإقليمية، وما يصاحب ذلك من إنعكاسات إيجابية في تعزيز مفاهيم اقتصادية جديدة مثل الدبلوماسيه الاقتصادية. والدبلوماسية الاقتصادية هي شكل من أشكال الدبلوماسية، وهي استخدام الأدوات الاقتصادية بشكل كامل من الدولة لتحقيق المصلحة الوطنية، وتشمل الدبلوماسية الاقتصادية كل الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر التصدير، والاستيراد، والاستثمار والإقراض والمساعدات، اتفاقيات التجارة الحرة، وتتكون دبلوماسية الاقتصاد بشكل مبسط من ضروره معرفة كل من نوع ومستوى القضية الاقتصادية المحلية أو الإقليمية أو الدولية، وكذلك اللاعبين سواء من دول أو منظمة دولية.
ويمكن تحديد عدد من المرتكزات المهمة في هذا الإطار وهي (أولا) إن استخدام النفوذ السياسي والعلاقات لتعزيز التأثير التجاري والاستثمار الدوليين لتحسين أداء الأسواق ولمعالجة إخفاقات السوق والحد من تكاليف ومخاطر المعاملات عبر الحدود.
(ثانيًا) معرفة السياسات واتفاقات التجارة والاستثمار واستخدام الأصول الاقتصادية والعلاقات بما يساهم في تعزيز المنافع المتبادلة للتعاون والعلاقات الاقتصادية المستقرة بما يساهم في تحقيق الأمن الاقتصادي.
(ثالثا) أهميت المنظمات الدولية الاقتصادية والسياسية، فهي تتيح طرقا لتعزيز المناخ السياسي والاقتصادي المناسب بما يساهم في تعزيز الاستثمارات والتجارة البينيه بين الدول.
وفي سياق الحديث عن الدبلوماسية الاقتصادية، فإن التجربة الصينية في هذا الإطار تقدم شكلا احترافيا في إداره الصين لاقتصادها، وتولى الصين كونها أكبر دولة نامية في العالم من حيث عدد السكان، اهتماما كبيرا للدبلوماسية الاقتصادية، بهدف تعزيز العلاقات الدولية وتطوير التعاون بينهما عن طريق المساهمة في دفع اقتصاديات تلك الدول الذي يطلق عليه مسمى "تعزيز العلاقات الدولية بدفع الاقتصاد"، حيث عززت الصين علاقاتها الخارجية تدريجيا مع دول نامية وأقل نموا بدفع عجلة التنمية الاقتصادية.
ومن ناحية أخرى، تستخدم الصين علاقاتها الخارجية المقامة مع دول نامية وأقل نموا في تعزيز التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري الذي يطلق عليه "تعزيز الاقتصاد بالعلاقات الخارجية" حيث وقعت الصين منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية على العديد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري خلال زيارات القادة الصينيين.
وأصبح الاقتصاد اليوم يمثل دور محوري في العلاقات الدولية وورقة سياسية مهمة في إدارة الشئون الخارجية للتفاوض على المصالح التجارية والمالية المشتركة، وتكمن هذه القوة الاقتصادية في توظيف المقدرات والثروات الوطنية واعتمادها كملفات رئيسية في كل المفوضات أو الاتفاقيات بين الدول التي تجمعهم مصلحة اقتصادية ومالية وتجارية، كما أن أغلب البعثات الدبلوماسية خاصة منها بعض الدول العربية أصبح لها دور ترويجي وتسويقي يمكن المستثمرين الأجانب بالاطلاع على الإغراءات والحوافز الاستثمارية الملائمة مع تقديم لمحة متكاملة حول أنواع المنتجات التي يمكن الاستثمار فيها في تلك الدول، وهو ما يؤكد أن العلاقات الدولية بين مختلف دول العالم في ظل العولمة الرقمية أصبحت ترتكز بالأساس على نقل التكنولوجيات الحديثة خاصة من دول الشمال إلى دول الجنوب، ووفقا للإستراتيجيات البعيدة الأمد في الدول الصاعدة أصبحت تكنولوجيات المعلومات تحتل مكانة مرموقة في الاقتصاديات الوطنية وأغلبها أصبح يعتمد على تقليص الفجوة الرقمية والاستفادة من المشاريع ذات المردودية العالية والتقنيات الحديثة، فالدول الأفريقية على سبيل المثال كانت غائبة عن المشهد الاقتصادي العالمي في الماضي، وأصبحت اليوم تحظى باهتمام كبير خاصة من قبل فرنسا التي تسعى عبر سلكها الدبلوماسي في القارة السمراء بتكوين خلية اقتصادية داخل أجهزتها قصد تطوير المبادلات التجارية وتنمية الموارد البشرية الأفريقية مع خلق شراكات صناعية وأسواق تجارية جديدة في ظل تزايد تواجد عملاق التجارة العالمي الصين الشعبية في أفريقيا، بالإضافة إلى ذلك أصبحت الدبلوماسية الاقتصادية تعتمد على إغراءات مالية أو على إنجاز مشاريع في البني التحتية بصفة مجانية مثل إنشاء طرقات أو مؤسسات ومرافق عامة وفي مقابل ذلك إبرام صفقات وإمضاء اتفاقيات تجارية طويلة الأمد.
وفي النهايه تمثل الدبلوماسية الاقتصادية المحرك الأساسي لجلب الاستثمارات المباشرة قصد زيادة نسبة النمو الاقتصادي وتحفيز التنمية الاقتصادية خاصة منها في المجالات الحيوية على غرار الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الرقمي.