ناقوس الخطر يهدد أطفالنا. نعلم جميعا أن هناك آثارًا سلبية خطيرة للهاتف المحمول والألعاب الإلكترونية على الأطفال، وتتضاعف تلك الخطورة عند السن المبكرة لكن بعضنا قد لا يدرك ماهية تلك الخطورة وإلى أي مدى تغتال العقل!
هي بمثابة أجهزة تشويش تسبب ارتباكا في حياة الطفل لتأثيرها الشديد على دماغه وأعصابه وسلوكياته، قد يكون الأهل مغيبين ويجهلون تلك الخطورة الفادحة، أو على الأقل لديهم قابلية "ذاتية" للتغييب حول مدى الضرر الذي تحدثه تلك الأجهزة و الألعاب على شخصية الطفل وجهازه العصبي.
ولنكن أكثر صراحة.. غالبية الآباء والأمهات يعون مخاطر التليفون المحمول والألعاب الإلكترونية ويستلزم الأمر أن يجهزوا بديلا لكل هذا وهم لا يملكون بديلا، أو يدعون أنهم لا يملكون البديل؛ لذلك فهم يغيبون أنفسهم وذواتهم عمدًا بل أحيانا يميل البعض إلى اتهام الأشخاص من أمثالي الذين يحذرون من تلك المخاطر بأن ما يحركنا هو نظرية المؤامرة و أننا من هواة التنظير والفلسفة بينما الأمر كله لا يعدو أن يكون لعبا في نظرهم ولن يٌحدث شيئا سيئا، بل يتماهون في التحايل ويتوقعون عبقرية ناطحة ستميز أطفال الموبايل و الألعاب والكمبيوتر!
الحقيقة ليس الأمر بالتنظير ولا الفلسفة "المتهمة البريئة" في هذه المشكلة ولكن أساتذة الطب النفسي والمخ والأعصاب وخبراء علوم التربية يُشددون على أن الطفل يتعلق في البداية باللعب الإليكترونية ويصبح تدريجيا تعلقا مرضيا حيث يميل إلى قضاء وقت أكثر من اللازم مع تلك الألعاب وهو وقت على حساب نومه ودراسته ولعبه المشترك مع أقرانه أو أخوته وأيضًا على حساب بذل الجهد للكلام مع أفراد الأسرة أو التعبير عن الأشياء وما في داخل النفس.
وللأسف ينتج عن الألعاب الإلكترونية واستخدام الموبايل عموما ضرر مادي جسدي ونفسي واجتماعي. ويكون الضرر محدودا في البداية لأنه يبدو مجرد تعلق باللعب والإمساك بهذا الجهاز "الساحر"، ثم يتحول إلى ضرر بعيد المدى لأنه يصبح إدمانا! وعند هذه المرحلة يبدأ الجهاز العصبي تفريغ الانفعالات الكامنة نتيجة الألعاب والفيديوهات على أكثر من شكل وصورة عصبية. وهي انفعالات ليس لها تفسير طبي وقد تصل إلى تشنجات أو لفت الانتباه أو لامبالاة تجاه حديث الأم والأب والمدرس/ة وقد يصل إلى حالة اكتئاب لدى الطفل، خاصة وأن الذاكرة البصرية للطفل تكون قد تغذت على مشاهد وأصوات الأسلحة والمعارك و الدم والألفاظ الجارحة والصراخ والجلبة وغيرها من المؤثرات الصوتية.
لنتعامل بقليل من الصراحة ونواجه أنفسنا: يتعامل بعض الآباء والأمهات مع الطفل بمنطق "عملي" براجماتي. فقد أنجباه ووفرا له إمكانيات مثل الحفاضات والأكل الذي يملآن به الثلاجة والأقساط التي يسددانها للمدرسة وهو ما ينتظران عليه الشكر.. ثم المطلوب أن نسكت وممنوع التعليق.. يعني نخرس من الآخر!
من جانب آخر، يرى البعض أن طفلهم لا يقوم بشيء خاطئ فهو "ملهي" في اللعب. لكنهم لا يدركون أن الطفل "الملهي" أمامهم إنما عقله موجود في مكان آخر – خطير بالمناسبة- وهناك من يتلاعب بهذا العقل ويؤثر على إدراكه ونفسيته، بل يتحول الطفل إلى "عبد" للألعاب والفيديوهات تمتلكه وتسيطر عليه ويصبح الطفل أسيرا في سجن المستطيل الصغير. وتنتفي هنا سيطرة الأهل وتأثيراتهم تمام أمام هذا المارد.
وهنا تكمن البداية التي تضع أيدينا على المشكلة والتي تتمثل في "المدة/ الشدة/ التكرار".. هذا الثلاثي يلخص عمق الأزمة التي تتفاقم كلما كان الجلوس أمام تلك الشاشات مدة طويلة، وكانت شدة الأشياء التي تؤثر بعمق ويتفاعل معها الطفل بقوة وتلبي لديه رغبات وانفعالات كثيرة، ثم يتكرر هذا الأمر كثيرا منذ الطفولة المبكرة جدا.. هنا يصبح الضرر جسيما على الجهاز العصبي المركزي للطفل، خاصة وأن دماغه مازالت في مرحلة النمو والخلايا مازالت في مرحلة التكوين وإذا صدرت من تلك الألعاب أي موجات مغناطيسية أو كهرومغناطيسية فإنها تخترق الجمجمة بسهولة وتصل إلى الخلايا والمراكز العصبية الحساسة في الدماغ ومن الممكن أن تسبب لها تلفا!
ولدينا حالات كثيرة استندت عليها الدراسات التربوية والنفسية الحديثة حيث يصبح نوم الطفل مرتبطا بالألعاب أو بالموبايل والألعاب الموجودة فيه كما أن استجابته للأكل تصبح أيضا مرتبطة بالجلوس أمام الموبايل أو أمام الشاشة، وأيضا حضانته أو مدرسته بل وعلاقاته كذلك ومدى حميميتها ترتبط شرطيا بمن يقدم له هذا الجهاز أو يوفر له هذه الألعاب. وهنا نكون قد دخلنا دائرة الخطر بل الخطر شديد الوطأة!
لذا فإن المنع هو أول تصرف ضروري بل حتمي من طرف الوالدين لأنه بداية التقويم والعودة إلى نقطة الانطلاق السليمة للطفل. والمنع هنا لا بديل عنه بسرعة وقبل فوات الأوان وعدم الاكتفاء بالقول: إن الطفل يلعب وقتا محددا يتحكم في مدته الوالدان.. مثلا أول ساعتين صباحا وآخر ساعتين نهاية اليوم.. فهذا وفقا للخبراء التربويين تمادي في المشكلة ولن يوقف الخطر. وإذا لم يكن هناك من حل سلس مع الطفل فعلى الأسرة بجميع أفرادها أن يتخلصوا من موبايلاتهم خلال استعدادهم لدخول المنزل كأن يتركوها في السيارة أو أي مكان خارج البيت والالتزام بالتواجد بجانب الطفل بدون موبايلات وألعاب على الإطلاق.
قد يرى البعض فيما أكتبه ضربا من المستحيل لكني أرد عليهم بأن المستحيل الأكبر قد يصدمكم بعد عدة سنوات عندما تفقدون أبناءكم لا قدر الله فتجدون لديهم بعض سمات التوحد أو أمراضا عصبية ونفسية وسلوكية.
والحقيقة أنه لا مفر للأهل من تحمل مسؤولياتهم تجاه أبنائهم لتفادي هذه الكارثة المتمثلة في إدمان الألعاب الإلكترونية والجلوس على الموبايل بحيث لا يفارق أيديهم حتى وهم نائمون ناهيك عن الذبذبات الصادرة من الأجهزة وتأثيرها على عمل الجهاز العصبي طيلة ساعات اليوم وحتى في وضع النوم.
ولعل هذا النوع من إدمان الألعاب الإلكترونية قادر على أن يفتح الباب أمام أنواع أخرى من الإدمان فيما بعُد وهو ما يجعلني أُناشد الأهل بأعلى صوتي بضرورة التدخل لمنع هذا الخطر المحدق بالأطفال؛ وليس هناك دور أهم للأهل من هذا الدور وليس هناك أولوية أهم من هذه الأولوية. ومرة أخرى أذكركم بأن هناك بدائل ليلعب الطفل غير ما يغتال طفولته، وأستحلفكم بأن تتركوا الحجج الواهية جنبا كالقول بأن الأمر آمن وأن العلماء ومسوقي البرامج والألعاب أكدوا أنه لا خوف طالما وقت اللعب محدود.
الصحيح أنكم أيها الآباء والأمهات تعرفون أن البديل مُتعب.. ويتمثل في ضرورة قضاء وقت "نوعي" مع الطفل في اللعب والحديث والحكي والرسم والقراءة والدراسة والأنشطة المختلفة. هذا هو دوركم الرئيس وتلك هي مهمتكم الأصلية فلا تهربوا أو تتحججوا لأن أبناءكم لن يسامحوكم أبدا بل لن تسامحوا أنفسكم عندما يأتي اليوم الذي تندمون فيه.. يوم لا ينفع الندم!
olfa@aucegypt.edu